{ إِنَّ لَكَ فِي ٱلنَّهَارِ سَبْحَاً طَوِيلاً } قراءة العامة: بالحاء غير معجمة، أي فراغاً وسعة لنومك وتصرفك في حوائجك، وأصل السبح سرعة الذهاب. ومنه السباحة في الماء، وفرس سابح شديد الجري. قال الشاعر:
أباحوا لكم شرق البلاد وغربهاففيها لكم يا صاح سبح من السبح
وقرأ يحيى بن يعمر: سبخاً بالخاء المعجمة، أراد خفة وسعة واستراحة، ومنه "قول النبيّ لعائشة وقد دعت على سارق سرقها: لا تسبخي عنه بدعائك عليه" أي لا تخففي، والتسبيخ توسيع القطن والصوف وتنفيشها، يقال للمرأة: سبّخي قطنك، ويقال لقطع القطن إذا ندف: سابخ.
قال الأخطل يصف القناص والكلاب:
فأرسلوهن يذرين التراب كمايذري سبائخ قطن ندف أوتار
قال تغلب: السبحُ التردد والاضطراب والسبخ السكون ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "الحمى من قيح جهنهم فسبّخوها بالماء" أي سكنوها.
{ وَٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبِّكَ } بالتوحيد والتعظيم، وقال سهل اقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم في ابتداء صلواتك توصلها بركة قرابها إلى ربّك وتقطعك عن كل ما سواه.
{ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } قال ابن عباس وأكثر الناس: أخلص إليه إخلاصاً. الحسن: اجتهد. ابن زيد: تفرّغ لعبادته. شفيق: توكل عليه توكلا.
وسمعت محمد بن الحسن السليمي، يقول: سمعت منصور بن عبد الله، يقول: سمعت أبا القيّم البزاز يقول: قال ابن عطاء: انقطع إليه انقطاعاً، وهو الأصل في هذا الباب، يقال: بتلت الشيء أي وقطعته، وصدقة بتة بتلة أي بائنة مقطوعة من صاحبها لا سبيل له عليها، ودار تبتيل أي منقطعة عن الدور، قال امرؤ القيس:
تضيء الظلام بالعشاء كأنّهامنارة ممسى راهب متبتلّ
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التبتّل ومنه قيل لمريم العذراء البتول.
وقال أبو القيّم: اتصل به اتصالا ما رجع من رجع إلاّ من الطريق، ما وصل إليه أحد فرجع عنه. محمد بن عليّ: ارفع اليدين في الصلاة. زيد بن أسلم: التبتل: رفض الدنيا وما فيها والتماس ما عند الله.
{ رَّبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ } قرأ أهل الحجاز وأبو عمرو وأيوب وحفص برفع الباء على الإبتداء. وقيل: على إضمار هو، وقرأ الباقون بالخفض على نعت الربّ في قوله سبحانه: { وَٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبِّكَ } الآية.
{ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَٱتَّخِذْهُ وَكِيلاً } قيّماً بأمورك ففوّضها إليه { وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَٱهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً } نسختها آية القتال.
أخبرني الحسن قال: حدّثنا السني، قال: حدّثنا حاتم بن شعيب، قال: حدّثنا سريح بن يونس، قال: حدّثنا سعيد بن محمد الورّاق عن الأحوص بن حكيم عن أبيه عن أبي الزاهرية أنّ أبا الدرداء قال: إنا لنكشّر في وجوه أقوام ونضحك إليهم، وإنّ قلوبنا لتقليهم أو لتلعنهم.
{ وَذَرْنِي وَٱلْمُكَذِّبِينَ أُوْلِي ٱلنَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً } نزلت في صناديد قريش المكذبين المشتهرين. وقال مقاتل بن حيان: نزلت في المطعمين ببدر وهم عشرة - ذكرناهم في الأنفال - والنعمة التنعم والنعمة المرؤة والمنّة أيضاً، والنعمة بضم النون: الميسرة يقال: نعم ونعمة عيّن ونعمى عين.
{ إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً } عندنا في الآخرة قيوداً عظاماً لا تفكّ أبداً واحدها نكل، قال الشعبي: ترون أن الله يجعل الأنكال في أرجل أهل النار لأنّه خشي أن يفروا؟ ولكن إذا أراد أن يرتفعوا استفلت بهم. { وَجَحِيماً * وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ } غير سائغة تأخذ بالحلق لا هو نازل ولا هو خارج وهو الغِسْلين والزقوم والضريع. { وَعَذَاباً أَلِيماً }.
أخبرني عقيل: أنّ أبا الفرج أخبرهم عن ابن جرير، قال: حدّثنا أبو كريب، قال: حدّثنا وكيع عن حمزة الزيّات عن حمران بن أعين "أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ: { إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً وَجَحِيماً * وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ } فصعق" .
وأخبرني ابن فنجويه، قال: حدّثنا ابن ماجه، قال: حدّثنا الحسن بن أيوب، قال: حدّثنا عبد الله بن أبي زياد، قال: حدّثنا سيار، قال: حدّثنا صالح، قال: حدّثنا خالد بن حسان، قال: أمسى عندنا الحسن وأمسى صائماً، فأتيته بطعام فعرضت له هذه الآية { إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً وَجَحِيماً * وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً } فقال: ارفع الطعام، فلما كانت الليلة الثانية أتيناه أيضاً بطعام فعرضت له هذه الآية، فقال: ارفعه، فلمّا كانت الليلة الثالثة أتيته فعرضت له هذه الآية، فقال: ارفعوا، فانطلق ابنه إلى ثابت البناني ويزيد الضبي ويحيى البكاء فحدثهم بحديثه، فجاءوا معه فلم يزالوا به حتّى شرب شربة من سويق. { يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلأَرْضُ وَٱلْجِبَالُ } أي تتحرك وتضطرب بمن عليها { وَكَانَتِ ٱلْجِبَالُ كَثِيباً } وهو الرمل المجتمع { مَّهِيلاً } سائلا متناثراً إذا مسّته تتابع، وأصله مهيول وهو مفعول من قول القائل: هلت الرمل فأنا أهيله، وذلك إذا حرّك أسفله فانهال عليه من أعلاه، يقال: مهيل ومهيول ومكيل ومكيول ومعين ومعيون، "قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه وهم يشكون الجدوبة: أتكيلون أم تهيلون؟
قالوا: نهيل.
قال: كيلوا ولا تهيلوا" .
وقال الشاعر:
واخال أنّك سيّد معيون
{ إِنَّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ ٱلرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً } شديداً صعباً ثقيلا، ومنه يقال: كلأ مستوبل وطعام مستوبل إذا لم يُستمرأ، ومنه الوبال وقالت الخنساء:
لقد أكلت بجيلة يوم لاقتفوارس مالك أكلا وبيلا
وتقول العرب: لقد أوبل عليه الشراء أي توبع.
{ فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ } أي فكيف لكم بالتقوى في القيامة إذا كفرتم في الدنيا، يعني: لا سبيل لكم إلى التقوى ولا تنفعكم التقوى إذا وافيتم القيامة. وقيل: معناه فكيف تتّقون عذاب يوم، وكيف تنجون منه إذا كفرتم. وقرأ ابن مسعود وعطيّة: فكيف يتّقون يوماً يجعل الولدان شيباً أن كفرتم.
وقرأ أبو السماك العدوي: فكيف يتّقون بكسر النون على الإضافة.
{ يَوْماً يَجْعَلُ ٱلْوِلْدَانَ } الصبيان { شِيباً } شمطاً من هوله وشدّته وذلك حين يقال لآدم: قم فابعث بعث النار من ذرّيتك.
أخبرني الحسن، قال: حدّثنا محمد بن الحسن بن بشر، قال: حدّثنا أبو بكر بن أبي الخطيب، قال: حدثني محمد بن غالب، قال: سمعت عثمان بن الهيثم، يقول: مررت بأبن السري وهو قائم في الطريق، فسأله إنسان { يَوْماً يَجْعَلُ ٱلْوِلْدَانَ شِيباً }، قال: هم أولاد الزنا. وقيل: أولاد المشركين.
{ السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ } مثقل مشقق { بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً * إِنَّ هَـٰذِهِ } السورة أو هذه الآيات { تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً } بالإيمان والطاعة { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ } أقرب { مِن ثُلُثَيِ ٱلْلَّيْلِ } روى هشام عن أهل الشام ثلثي مخفف غير مشبع { وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ } نصبها أهل مكة والكوفة على معنى وتقوم نصفه وثلثه، وخففهما الباقون عطفاً على ثلثي. { وَطَآئِفَةٌ مِّنَ ٱلَّذِينَ مَعَكَ } أيضاً يقومونه.
{ وَٱللَّهُ يُقَدِّرُ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ } تطيقوا قيام الليل { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } تجاوز عنكم ورجع لكم إلى التخفيف عليكم { فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ } قال السدي: مائة آية. قال الحسن: من قرأ مائة آية في ليله لم يحاجّه القرآن. وقال كعب: من قرأ في ليله مائة آية كتب من القانتين. وقال سعيد: خمسون آية. وروى الربيع بن صبيح عن الحسن: { فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } قال: يعني في صلاة المغرب والعشاء.
{ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَىٰ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي ٱلأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } فسوى بين درجة المجاهدين والمكتسبين المال الحلال للنفقة على نفسه وعلى العيال وللإحسان والإفضال.
أخبرني ابن فنجويه، قال: حدّثنا ابن سلم، قال: حدّثنا أبو بكر بن عبد الخالق، قال: حدّثنا أبو بكر بن أحمد بن محمد الحجاج، قال: حدثني أبو الفتح، قال: قال أبو نصر بشر بن الحرث، قال: حدّثنا المعافى بن عمران وعيسى بن يونس عن فرقد السبخي عن إبراهيم عن ابن مسعود، قال: أيّما رجل جلب شيئاً إلى مدينة من مدائن المسلمين صابراً محتسباً فباعه بسعر يومه كان عند الله سبحانه بمنزلة الشهداء، ثمّ قرأ عبد الله { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي ٱلأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ }.
وأخبرني ابن فنجويه، قال: حدّثنا موسى بن محمد بن عليّ، قال: حدّثنا محمد بن عثمان ابن أبي شيبة، قال: حدّثنا عبد الحميد بن صالح، قال: حدّثنا أبو عقيل عن القيّم بن عبيد الله عن أبيه، قال: سمعت ابن عمر، يقول: ما خلق الله عزّوجلّ موتة أموتها بعد القتل في سبيل الله أحبّ إليّ من أن أموت بين شعبتي رجل أضرب في الأرض أبتغي من فضل الله.
{ فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } سمعت محمد بن الحسن السلمي، يقول: سمعت منصور بن عبد الله، يقول: سمعت أبا القيّم الأسكندراني، يقول: سمعت أبا جعفر الملطي، يقول: عن عليّ ابن موسى الرضا عن أبيه عن جعفر بن محمد في هذه الآية، قال: ما تيسّر لكم منه خشوع القلب وصفاء السر.
{ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ وَأَقْرِضُواُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَيْراً } من الشح والتقصير { وَأَعْظَمَ أَجْراً } من ذلك الذي قدّمتموه لو لم تكونوا قدّمتموه، ونصب { خَيْراً وَأَعْظَمَ } على المفعول الثاني، وهو فصل في قول البصريين، وعماد في قول الكوفيين لا محل له من الإعراب. { وَٱسْتَغْفِرُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }.