التفاسير

< >
عرض

بَلْ يُرِيدُ ٱلإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ
٥
يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ ٱلْقِيَامَةِ
٦
فَإِذَا بَرِقَ ٱلْبَصَرُ
٧
وَخَسَفَ ٱلْقَمَرُ
٨
وَجُمِعَ ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ
٩
يَقُولُ ٱلإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ ٱلْمَفَرُّ
١٠
كَلاَّ لاَ وَزَرَ
١١
إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ ٱلْمُسْتَقَرُّ
١٢
يُنَبَّأُ ٱلإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ
١٣
بَلِ ٱلإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ
١٤
وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ
١٥
لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
١٦
إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
١٧
فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَٱتَّبِعْ قُرْآنَهُ
١٨
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ
١٩
كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ ٱلْعَاجِلَةَ
٢٠
وَتَذَرُونَ ٱلآخِرَةَ
٢١
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ
٢٢
إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ
٢٣
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ
٢٤
تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ
٢٥
كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ ٱلتَّرَاقِيَ
٢٦
وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ
٢٧
وَظَنَّ أَنَّهُ ٱلْفِرَاقُ
٢٨
-القيامة

الكشف والبيان

{ بَلْ يُرِيدُ ٱلإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ } يقول تعالى ذكره: ما يجهل إبن آدم أن ربّه قادر على جمع عظامه بعد الموت، ولكنّه يريد أن يفجر أمامه، أي يمضي قدماً في معاصي الله راكباً رأسه لا ينزع عنها ولا يتوب، هذا قول مجاهد والحسن وعكرمه والسدي، وقال سعيد بن جبير: يقدم الذنب ويؤخر التوبة، يقول: سوف أتوب حتى يأتيه الموت على شر أحواله وأسوأ أعماله، وقال الضحاك: هو الأمل يأمل الإنسان يقول: أعيش وأصيب من الدنيا كذا وكذا ولا يذكر الموت، وقال ابن عباس وابن زيد: يكذّب بما أمامه من البعث والحساب، وقال ابن كيسان: يريد أن تأتيه الآخرة التي هي أمامه فيراها في دار الدنيا.
وأصل الفجور: الميل، ومنه قيل للكافر والفاسق والكافر: فاجر، لميلهم عن الحق، وقال السدي أيضاً: يعني ليظلم على قدر طاقته، وقيل: يركب رأسه في هواه ويهتم حيث قادته نفسه.
{ يَسْأَلُ أَيَّانَ } متى { يَوْمُ ٱلْقِيَامَةِ } فبيّن الله له ذلك فقال عزّ من قال: { فَإِذَا بَرِقَ ٱلْبَصَرُ } قرأ أبو جعفر ونافع وابن أبي إسحاق: { بَرِقَ } بفتح الراء وغيرهم بالكسر.
أخبرنا محمد بن نعيم قال: أخبرنا الحسن بن الحسين بن أيوب، أخبرنا علي بن عبد العزيز قال: حدّثنا أبو عبيد قال: حدّثنا حجاج عن هارون قال: سألت أبا عمرو بن العلاء عنها فقال: برق بالكسر يعني جار قال: وسألت عنها عبد الله بن أبي إسحاق فقال: برَق بالفتح، وقال: إنّما برق الحنظل اليابس، وبرق البصر قال: فذكرت ذلك لأبي عمرو فقال: إنما برق الحنظل والنار والبرق، وأما البصر فبرق عند الموت، قال: فأخبرت بذلك ابن أبي إسحاق فقال: أخذت قراءتي عن الأشياخ نصر بن عاصم وأصحابه فذكرت ذلك لأبي عمرو فقال: لكني لا آخذ عن نصر ولا عن أصحابه كأنه يقول أخذ عن أهل الحجاز فقال: قتادة ومقاتل: شخص البصر فلا يطرف مما يرى من العجائب مما كان يكذب به في الدنيا إنّه غير كائن، وقال الفراء والخليل: برق بالكسر فزع، وأنشدا لبعض العرب:

فنفسك قانع ولا تتغيوداو الكلوم ولا تبرق

أي لا تفزع من الجرح الذي بك.
قال ذو الرمّة:

ولو أن لقمان الحكيم تعرّضتلعينيه ميّ سافراً كاد يبرق

وبرَق بفتح الراء: شقّ عينه وفتحها، وأنشد أبو عبيدة:

لما أتاني ابن عمير راغباًأعطيته عيساً صهاباً فبرق

أي فتح عينه، ويجوز أن يكون من البرق.
{ وَخَسَفَ ٱلْقَمَرُ } أظلم وذهب ضوءه، قال ابن كيسان: ويحتمل أن يكون بمعنى غاب كقوله سبحانه
{ { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ ٱلأَرْضَ } [القصص: 81]، وقرأ [ابن أبي اسحاق وعيسى والأعرج]: وخُسف بالضم لقوله: { وَجُمِعَ ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ } [القيامة: 9] أسودين مكوّرين كأنهما ثوران عقيران، وهي في قراءة عبد الله: وجمع بين الشمس والقمر، وقيل: وجمع بينهما في ذهاب الضياء، وقال عطاء بن يسار: يجمعان يوم القيامة، ثم يقذفان في البحر، فيكونان نار الله الكبرى، وقال علي بن أبي طالب وابن عباس: يجعلان في نور الحجب.
{ يَقُولُ ٱلإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ ٱلْمَفَرُّ } المهرب، وقرأها العامة { ٱلْمَفَرُّ } بفتح الفاء واختاره أبو عبيد وأبو حاتم قالا: لأنه مصدر، وقرأ ابن عباس والحسن بكسر الفاء، قال الكسائي: هما لغتان مثل مدَب ومدِب ومصَح ومصِح، وقال الآخرون: بالفتح المصدر وبالكسر موضع الفرار مثل المطلع والمطلع.
{ كَلاَّ لاَ وَزَرَ } لا حصن ولا حرز ولا ملجأ، قال السدي: لا جبل، وكانوا إذا فزعوا نحوا إلى الجبل فتحصّنوا به فقال الله سبحانه: لا جبل يومئذ يمنعهم.
{ إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ ٱلْمُسْتَقَرُّ } أي مستقر الخلق وأعمالهم وكل شي، وقال مقاتل: المنتهى فلا يجد عنه مرحلا نظيره
{ { وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلْمُنتَهَىٰ } [النجم: 42] وقال يمان: المصير والمرجع، وهو قول ابن مسعود نظيره { { إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلرُّجْعَىٰ } [العلق: 8] و { وَإِلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْمَصِيرُ } [آل عمران: 28] وقوله سبحانه { { أَلاَ إِلَى ٱللَّهِ تَصِيرُ ٱلأُمُورُ } [الشورى: 53].
{ يُنَبَّأُ ٱلإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } [القيامة" 13] قال ابن مسعود وابن عباس: قدم قبل موته من عمل صالح أو طالح وما أخر بعد موته من سنة حسنة أو سيئة يعمل بها. عطية عن ابن عباس: بما قدّم من المعصية وأخّر من الطاعة. مجاهد: بأول عمل عمله وآخره. قتادة: بما قدّم من طاعة الله وأخّر من حقّ الله فضيّعه. ابن زيد: بما قدّم من عمل من خير أو شر وما أخّر من العمل بطاعة الله فلم يعمل به. عطاء: بما قدّم في أول عمره وما أخّر في آخر عمره. زيد بن أسلم: بما قدم من أمواله لنفسه وما أخّر خلّف للورثة، نظيره
{ { عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ } [الإنفطار: 5].
سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا سعيد بن أبي بكر بن أبي عثمان يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبا عثمان يقول: خمس مصائب في الذنب أعظم من الذنب:
أوّلها: خذلان الله لعبده حتى عصاه ولو عصمه ما عصاه.
والثانية: أن سلبه حلية أوليائه وكساه لباس أعدائه.
والثالثة: أن أغلق عليه أبواب رحمته وفتح عليه أبواب عقوبته.
والرابعة: نظر إليه وهو يعصيه.
والخامسة: وقوفه بين يديه يعرض عليه ما قدّم وأخّر من قبائحه.
فهؤلاء المصائب الخمس في الذنب أعظم من الذنب.
{ بَلِ ٱلإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ } قال عكرمة ومقاتل والكلبي: معناه بل الإنسان على نفسه من نفسه رقبا يرقبونه بعمله ويشهدون عليه به وهي: سمعه وبصره ويداه ورجلاه وجميع جوارحه وهذه رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.
قال القبسي: أقام جوارحه مقام نفسه لذلك رأت ويجوز أن يكون تأنيثه للإضافة إلى النفس كما تقول في الكلام: ذهبت بعض أصابعه، و { بَصِيرَةٌ } مرفوعة بخبر حرف الصفة وهي قوله { عَلَىٰ نَفْسِهِ }، ويحتمل أن يكون معناه بل الإنسان على نفسه بصيرة، ثم حذفت حرف الجر كقوله:
{ { وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوۤاْ أَوْلاَدَكُمْ } [البقرة: 233] أي لأولادكم، ويصلح أن يكون نعتاً لاسم مؤنث أي بل للإنسان على نفسه عين بصيرة وأنشد الفراء:

كأن على ذي العقل عيناً بصيرةبمقعده أو منظر هو ناظره
يحاذر حتّى يحسب الناس كلهممن الخوف ولا تخفى عليه سرائره

قال أبو العالية وعطاء: بل الإنسان على نفسه شاهد، وهي رواية العوفي عن ابن عباس، والهاء في { بَصِيرَةٌ } للمبالغة، وقال الأخفش: هي كقولك فلان عبرة وحجة، ودليل هذا التأويل قول الله تعالى: { { كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } [الإسراء: 14] وقال ابن تغلب: البصيرة والبينة والشاهد والدليل واحد.
{ وَلَوْ أَلْقَىٰ } عليه { مَعَاذِيرَهُ } يعني أنه يشهد عليه الشاهد ولو أعتذر وجادل عن نفسه. نظيره قوله سبحانه:
{ { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ ٱلظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ } [غافر: 52] وقوله: { { وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } [المرسلات: 36] وهذا قول مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير وابن زيد وأبو العالية وعطا. قال الفراء: ولو اعتذر فعليه من نفسه من يكذّب عذره. مقاتل: ولو أدلى بعذر أو حجة لم ينفعه ذلك.
ومعنى الإلقاء: القول نظيره:
{ { فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ ٱلْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ } [النحل: 86] { وَأَلْقَوْاْ إِلَىٰ ٱللَّهِ يَوْمَئِذٍ ٱلسَّلَمَ } [النحل: 87]. الضحاك والسدي: يعني ولو أرخى الستور وأغلق الأبواب، قال: وأهل اليمن يسمّون الستر المعذار، وقال بعض أهل المعاني: المعاذير إحالة بعضهم على بعض.
{ لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } وذلك أن رسول الله (عليه السلام) كان لا يفتر من قراءة القرآن مخافة أن ينساه، وكان إذا نزل عليه جبرائيل بالقرآن لم يفرغ جبرائيل من الآية حتى يقرأ رسول الله (عليه السلام) أولها ويحرك لسانه بها في نفسه مخافة أن ينساها فأنزل الله سبحانه
{ { وَلاَ تَعْجَلْ بِٱلْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ } [طه: 114] وأنزل { { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَىٰ } [الأعلى: 6] وأنزل { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ } أي بالوحي لسانك به أي تلاوته لتحفظه ولا تنساه { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ } في صدرك حتى تحفظه { وَقُرْآنَهُ } وقراءته عليك حتى تعيه وقيل أراد بقوله: { وَقُرْآنَهُ } وجمعه في صدرك وهو مصدر كالرجحان والنقصان.
{ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ } عليك { فَٱتَّبِعْ قُرْآنَهُ } أي ما فيه من الأحكام { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } بما فيه من الحدود والحلال والحرام. { كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ ٱلْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ ٱلآخِرَةَ } قرأهما أهل المدينة والكوفة بالتاء وغيرهم بالياء أي يختارون الدنيا على العقبى نظيرها في سورة الإنسان
{ { إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ يُحِبُّونَ ٱلْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً } [الإنسان: 27].
{ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ } يعني يوم القيامة { نَّاضِرَةٌ }. قال ابن عباس: حسنة. قال الحسن: حسّنها الله بالنظر إلى ربها. مجاهد: مسرورة. ابن زيد: ناعمة. مقاتلان: بيض يعلوها النور. السدي: مضيئة. يمان: مسفرة. الفراء: مشرقة بالنعيم. الكسائي: بهجة. قال الفراء والأخفش: يقال نضر الله وجه فلان فلا يتنضر نضيراً فنضر وجهه ننضّرُ نضّرة ونضارة قال الله سبحانه:
{ { تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ ٱلنَّعِيمِ } [المطففين: 24] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نضّر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها" ، ونظر في هذه الآية قوله سبحانه: { { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ } [عبس: 38-39].
{ إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } وأكثر الناس تنظر إلى ربّها عياناً.
قال الحسين بن واقد: أخبرني يزيد بن عكرمة وإسماعيل بن أبي خالد وأشياخ من أهل الكوفة قالوا: تنظر إلى ربّها نظراً، وقال الحسن: تنظر إلى الخالق وحق لها أن تنضر وهي تنظر إلى الخالق، وقال عطية العوفي: ينظرون إلى الله لا تحيط أبصارهم به من عظمته وبصره يحيط بهم، فذلك قوله سبحانه:
{ { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأَبْصَارَ } [الأنعام: 103] ودليل هذا التأويل ما أخبرنا الحسن بن فنجويه قال: حدّثنا ابن ماجه قال: حدّثنا أبو جعفر محمد بن مندة الأصفهاني قال: حدّثنا الحسين بن حفص قال: حدّثنا إسرائيل بن يونس عن ثوير بن أبي ناختة قال: سمعت ابن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وزوجاته ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف عام، وإن أكرمهم على الله لمن ينظر إلى وجهه تبارك وتعالى غدوة وعشية ثم قرأ رسول الله (عليه السلام) { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ }" .
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا أبو النفخ محمد بن الحسن الأزدي الموصلي قال: حدّثني أحمد بن عيسى بن السكين قال: حدّثنا أحمد بن محمد بن عمر بن يونس اليمامي قال: حدّثنا قال: أخبرنا رباح بن زيد الصنعاني قال: أخبرني ابن جريح قال: أخبرني زياد بن سعد أن أبا الزبير أخبره عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يتجلّى ربّنا عزّوجل حتى ينظروا إلى وجهه فيخرّون له سجداً فيقول: إرفعوا رؤسكم فليس هذا بيوم عبادة" .
وروى الحسن عن عمار بن ياسر قال: كان من دعاء النبي (عليه السلام): "اللهم أسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلّة" يعني أنّها تنتظر الثواب من ربّها ولا تراه من خلفه شي.
قلت: وهذا تأويل مدخول؛ لأنّ العرب إذا أرادت بالنظر الانتظار قالوا: نظرته، كما قال الله سبحانه:
{ { فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ ٱلسَّاعَةَ } [محمد: 18] هل ينظرون إلاّ نار الله؟ و { مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً } [يس: 49] وإذا أردت به التفكّر والتدبير قالوا: نظرت فيه فأمّا إذا كان النظر مقروناً بذكر إلى وذكر الوجه فلا يكون إلاّ بمعنى الرؤية والعيان.
{ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ } عابسة كالحة متغيّرة مسودة { تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } قال مجاهد: داهية، سعيد بن المسيب: قاصمة الظهر وأصلها الفقرة والفقار، يقال: فقره إذا كسر فقاره، كما يقال: رأسه إذا ضرب رأسه، وقال قتادة: الفاقرة: الشرّ، وقال ابن زيد: تعلم أنها ستدخل النار، وقال أبو عبيدة: الفاقرة: الداهية يقال: عمل بها الفاقرة وأصلها الوسم على أنف البعير بحديدة أو بنار حتى يخلص إلى العظم، وقال الكلبي: منكرة من العذاب وهي الحجاب.
{ كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ } يعني النفس كناية عن غير مذكور { ٱلتَّرَاقِيَ } فيحشرج بها عند الموت، والتراقي: العظام المكتنفة لثغرة النحر عن يمين وشمال، وقال دريد بن الصمة:

ورُبَّ عظيمة دافعت عنهموقد بلغت نفوسهم التراقي

{ وَقِيلَ } وقال من حضره { مَنْ رَاقٍ } هل من طبيب يرقيه ويداويه فيشفيه. قال قتادة: التمسوا له الأطباء فلم يغنوا عنه من قضاء شيئاً.
أخبرني الحسين قال: حدّثنا السني أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي قال: حدّثنا مسدّد بن مسرهد عن خالد بن عبد الله عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه كوى غلاماً له فقلت أتكوى قال: نعم هوّدوا العرب.
أخبرنا ابن مسعود أن رسول الله (عليه السلام) قال:
"إن الله سبحانه لم ينزل داء إلاّ وقد أنزل معه دواء جهله من جهله وعلمه من علمه" ، وقال سليمان التيمي ومقاتل بن سليمان: هذا من قول الملائكة يقول بعضهم لبعض من يرقى بروحه فيصعد بها ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، وهذه رواية أبي الجوزاء عن ابن عباس. قال أبو العالية: يختصم فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب أيّهم يترقّى بروحه.
{ وَظَنَّ أَنَّهُ ٱلْفِرَاقُ } فراق ليس يشبهه فراق قد انقطع الرجاء عن التلاق.
أخبرنا الربيع بن محمد الخاتمي ومحمد بن عقيل الخزاعي قالا: أخبرنا علي بن محمد بن عقبة الشيباني قال: أخبرنا الخضر بن أبان القرشي قال: حدّثنا ابن ميثم بن هدية عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله (عليه السلام):
"إنّ العبد ليعالج كرب الموت وسكراته وإنّ مفاصله يسلّم بعضها على بعض يقول عليك السلام تفارقني وأفارقك إلى يوم القيامة" .