التفاسير

< >
عرض

هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً
١
إِنَّا خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً
٢
إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً
٣
إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلاَ وَأَغْلاَلاً وَسَعِيراً
٤
إِنَّ ٱلأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً
٥
عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً
٦
-الإنسان

الكشف والبيان

{ هَلْ أَتَىٰ } قد أتى { عَلَى ٱلإِنسَانِ } آدم(عليه السلام)، وهو أول من سمّي به { حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ } أربعون سنة ملقى بين مكة والطائف قبل أن ينفخ الروح فيه { لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } لا يذكر ولا يعرف ولا يدري ما اسمه ولا ما يراد به، وروى أن عمر سمع رجلا يقول { هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } فقال عمر: ليتها تمت، وقال عون بن عبد الله: قرأ رجل عند ابن مسعود الآية فقال: إلاّ ليت ذلك.
{ إِنَّا خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ } يعني ولد آدم { مِن نُّطْفَةٍ } يعني من منيّ الرجل ومنيّ المرأة، وكل ماء قليل في وعاء فهو نطفة، كقول عبد الله بن رواحة: هل أنت إلاّ نطفة، وجمعها نطاف ونُطف، وأصلها من نطف إذا قطر. { أَمْشَاجٍ } أخلاط، واحدها مشج مشيج مثل حذن وحذين قال رؤبة:

يطرحن كلّ معجّل نسّاجلم يكس جلداً في دم أمشاج

ويقال مشجت هذا بهذا أي خلطته فهو ممشوج ومشج، مثل مخلوط وخليط، قال أبو دوم:

كأن الريش والفوقين منهخلاف النصل سبطيه مشيج

قال ابن عباس والحسن وعكرمة ومجاهد والربيع: يعني ماء الرجل وماء المرأة يختلطان في الرحم فيكون منهما جميعاً الولد، وماء الرجل أبيض غليط وماء المرأة أصفر رقيق، فأيهما علا صاحبه كان الشبه له، وقال قتادة: هي أطوار الخلق: نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم لحماً ثم عظاماً ثم يكسوه لحماً ثم ينشئه خلقاً آخر.
وقال الضحاك: أراد اختلاف ألوان النطفة نطفة، الرجل بيضاء وحمراء ونطفة المرأة خضراء وحمراء فهي مختلفة الألوان، وهي رواية الوالي عن ابن عباس وابن أبي نجح عن مجاهد، وكذلك قال عطاء الخراساني والكلبي: الأمشاج الحمرة في البياض والبياض في الحمرة أو الصفرة.
وقال عبد الله بن مسعود وأسامة بن زيد: هي العروق التي تكون في النطفة، وروى ابن جريح عن عطاء قال: الأمشاج الهن الذي كإنه عقب، وقال الحسن: نعم والله خلقت من نطفة مشجت بدم وهو دم الحيضة فإذا حبلت أرفع الحيض، وقال يمان: كل لونين اختلطا فهما أمشاج، وقال ابن السكيت: الأمشاج: الأخلاط، لأنها ممتزجة من أنواع فخلق الإنسان ذا طبائع مختلفة، وقال أهل المعاني: بناء الأمشاج بناء جمع وهو في معنى الواحد لأنه نعت النطفة وهذا كما يقال: برمة أعشار وثوب أخلاق ونحوهما.
وسمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا عثمان المغربي يقول: سُئلت وأنا بمكّة عن قول الله سبحانه: { أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ } فقلت ابتلى الله الخلق تسعة أمشاج: ثلاث مفتنات وثلاث كافرات وثلاث مؤمنات، فأما الثلاث المفتنات فسمعه وبصره ولسانه، وأما الثلاث الكافرات فنفسه وهواه وشيطانه، وأما الثلاث المؤمنات فعقله وروحه وملكه، فإذا أيّد الله العبد بالمعونة فقرّ العقل على القلب فملكه واستأسرت النفس والهوى فلم يجد إلى الحركة سبيلا، فجانست النفس الروح وجانس الهوى العقل وصارت كلمة الله هي العليا:
{ { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } [البقرة: 193].
{ نَّبْتَلِيهِ } نختبره بالأمر والنهي وقال بعض أهل العربية: هي مقدمة معناها التأخير مجازها: { فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً } لنبتليه؛ لأن الابتلاء لا يقع إلاّ بعد تمام الخلقة. { إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ } أي بيّنا له سبيل الحق والباطل والهدى والضلالة وعرّفناه طريق الخير والشرّ وهو كقوله
{ { وَهَدَيْنَاهُ ٱلنَّجْدَينِ } [البلد: 10]. { إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } أما مؤمناً سعيداً وأما كافراً شقيّاً يعني خلقناه أما كذا وأما كذا، وقيل معنى الكلام: الجزاء، يعني بيّنا له الطريق إن شكر وكفر، وهو إختيار الفرّاء، ثم بين الفريقين فقال عز من قال { إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلاَ } كل سلسلة سبعون ذراعاً.
{ وَأَغْلاَلاً وَسَعِيراً } قرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وعاصم عن حفص والأعمش والكسائي وأيوب كلهن: { سَلاَسِلاً } بإثبات الألف في الوقف والتنوين في الأصل، وهو اختيار أبي عبيد، ورواية هشام عن أهل الشام، ضده حمزة وخلف [وقنبل] ويعقوب برواية [.....] وزيد، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: قواريراً الأولى بالألف والثاني بغير ألف.
قال أبو عبيد: ورأيت في مصحف الإمام عثمان { قَوَارِيرَاْ } الأولى بالألف مبنية والثانية كانت بالألف فحكّت، ورأيت أثرها بيّنا هناك.
{ إِنَّ ٱلأَبْرَارَ } يعني المؤمنين الصادقين في إيمانهم المطيعين لربّهم، وقال الحسن: هم الذين لا يؤذون الذر ولا ينصبون الشرّ، وأحدهم بار، مثل شاهد وأشهاد وناصر وأنصار وصاحب وأصحاب ويراد بها مثل نهر وأنهار وضرب وأضراب.
{ يَشْرَبُونَ } في الآخرة { مِن كَأْسٍ } خمر { كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً } قال قتادة: يمزج لهم بالكافور ويختم لهم بالمسك، وقال عكرمة: مزاجها طعمها، وقال أهل المعاني: أراد كالكافور في بياضه وطيب ريحه وبرده، لأن الكافور لا يشرب، وهو كقوله
{ { حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَاراً } [الكهف: 96] أي كنار، وقال ابن كيسان: طيّبت بالكافور والمسك والزنجبيل، وقال الفرّاء: ويقال: إنّ الكافور اسم لعين ماء في الجنة، وفي مصحف عبد الله من كأس صفراء كان مزاجها قافورا والقاف والكاف يتعاقبان؛ لانّهما لهويتان، وقال الواسطي: لمّا اختلفت أحوالهم في الدنيا اختلفت أشربتهم في الآخرة فكأس الكافور برّدت الدنيا في صدورهم.
{ عَيْناً } نصب لأنها تابعة للكافور كالمفر له وقال الكسائي: على الحال والقطع، وقيل: يشربون عيناً، وقيل من عين، وقيل: أعني عينا، وقيل: على المدح وهي لهذه الوجوه كلّها محتملة.
{ يَشْرَبُ بِهَا } أي شربها والباء صلة وقيل منها. { عِبَادُ ٱللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً } أي يقودونها حيث شاءوا من منازلهم وقصورهم كما يفجر الرجل منكم النهر يكون له في الدنيا هاهنا وهاهنا إلى حيث يريد.