التفاسير

< >
عرض

عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ
١
عَنِ ٱلنَّبَإِ ٱلْعَظِيمِ
٢
ٱلَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ
٣
كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ
٤
ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ
٥
أَلَمْ نَجْعَلِ ٱلأَرْضَ مِهَٰداً
٦
وَٱلْجِبَالَ أَوْتَاداً
٧
وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً
٨
وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً
٩
وَجَعَلْنَا ٱلَّيلَ لِبَاساً
١٠
وَجَعَلْنَا ٱلنَّهَارَ مَعَاشاً
١١
وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً
١٢
وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً
١٣
وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلْمُعْصِرَاتِ مَآءً ثَجَّاجاً
١٤
لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً
١٥
وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً
١٦
إِنَّ يَوْمَ ٱلْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً
١٧
يَوْمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً
١٨
وَفُتِحَتِ ٱلسَّمَآءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً
١٩
وَسُيِّرَتِ ٱلْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً
٢٠
إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً
٢١
لِّلطَّاغِينَ مَآباً
٢٢
لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً
٢٣
لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً
٢٤
إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً
٢٥
جَزَآءً وِفَاقاً
٢٦
إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً
٢٧
وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا كِذَّاباً
٢٨
وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً
٢٩
فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً
٣٠
-النبأ

الكشف والبيان

{ عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ } يعني عن أي شيء يتساءلون هؤلاء المشركين وذلك أنهم اختلفوا واختصموا في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به، { عَنِ ٱلنَّبَإِ ٱلْعَظِيمِ } قال مجاهد هو القرآن. دليله قوله سبحانه { { قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ } [الآية] [ص: 67] وقال قتادة: هو البعث، { ٱلَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ } فمصدّق ومكذّب { كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ } وهذا وعيد لهم، وقال الضحاك كلاّ سيعلمون يعني الكافرين، ثم كلاّ سيعلمون يعني المؤمنين، وقراءة العامة بالياء فيهما، وقرأ الحسن ومالك بن دينار بالتاء فيهما.
{ أَلَمْ نَجْعَلِ ٱلأَرْضَ مِهَاداً * وَٱلْجِبَالَ أَوْتَاداً * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً } أصنافاً ذكوراً وإناثاً. { وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً } راحة لأبدانكم، والنائم مسبوت لا يعلم ولا يعقل كأنّه ميّت، { وَجَعَلْنَا ٱللَّيْلَ لِبَاساً } غطاء وغشاء يلبس كل شيء بسواده { وَجَعَلْنَا ٱلنَّهَارَ مَعَاشاً } سبباً لمعاشكم والتصرّف في مصالحكم فسمّاه به كقول الشاعر:

وأخو الهموم إذا الهموم تحضّرت[جنح] الظلام وساده لا يرقدُ

فجعل الوسادة هي التي لا ترقد والمعنى لصاحب الوسادة.
{ وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً * وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً } مضيئاً منيراً وقّاداً حارّاً وهي الشمس. { وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلْمُعْصِرَاتِ } قال مجاهد ومقاتل وقتادة: يعني الرياح التي تعصر السحاب، وهي رواية العوفي عن ابن عباس ومجازه على هذا التأويل بالمعصرات { مِنَ } بمعنى الباء كقوله سبحانه:
{ { مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلاَمٌ } [القدر: 4-5] وكذلك كان عكرمة يقرأها "وَأَنزَلْنَا بالْمُعْصِرَاتِ" وروى الأعمش عن المنهال عن ابن عمرو وعن قيس بن سكن قال: قال عبد الله في قوله: { وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلْمُعْصِرَاتِ مَآءً ثَجَّاجاً } قال: بعث الله سبحانه الريح فحمل الماء من الماء فتدرّ كما تدر اللقحة ثم يُبعث الماء كأمثال العزالي فتضرب به الرياح فينزل متفرّقاً.
قال المؤرّخ: المعصرات: ذوات الأعاصير، وقال أبو العالية والربيع والضحاك: هي السحاب التي تجلب المطر ولم تمطر كالمرأة المعصر، وهي التي دنا حيضها، قال أبو النجم:

قد أعصرت أو قد دنا اعصارها.

وهذه رواية الوالي عن ابن عباس. قال المبرّد: المعصرات الفاطرات، وقال ابن كيسان: المغيثات من قوله { { يَعْصِرُونَ } [يوسف: 49] وقال أُبي بن كعب والحسن وسعيد بن جبير وزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان: من المعصرات أي من السموات.
{ مَآءً ثَجَّاجاً } أي صباباً، وقال مجاهد: مدراراً، قتادة: متتابعاً يتلوا بعضه بعضاً، وقال ابن زيد: كثيراً.
{ لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً } مجتمعه ملتفة بعضه ببعض وواحدها ألفّ في قول [نحاة] البصّرة وليس بالقوى وفي قول الآخرين واحدها لِف ولفيف وقيل: هو جمع الجمع يقال: جنّة لفاً [وبنت] لف وجنان لف بضم اللام ثم تجمع اللف ألفافاً.
{ إِنَّ يَوْمَ ٱلْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً } لما وعد الله سبحانه { يَوْمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً } [....]، وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه، قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن منصور الكسائي قال: حدّثنا محمد بن عبد الجبار قال: أخبرنا محمد بن زهير عن محمد بن المهتدي عن حنظلة الدّوري عن أبيه عن [البزا] بن عازب قال:
"كان معاذ بن جبل جالساً قريباً من رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزل أبي أيوب الأنصاري فقال معاذ: يا رسول الله أرأيت قول الله تعالى: { يَوْمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً } فقال: معاذ سألت عن عظيم من الأمر، ثم أرسل عينيه ثم قال: تحشرون عشرة أصناف من أمتي أشتاتاً قد ميزّهم الله تعالى من جماعة المسلمين وبدّل صورهم فبعضهم على صور القردة وبعضهم على صورة الخنازير وبعضهم منكّبين أرجلهم فوق ووجوههم أسفل يسحبون عليها، وبعضهم عُمي يتردّدون، وبعضهم صمّ بكمّ لا يعقلون، وبعضهم يمضغون ألسنتهم وهي مدّلاة على صدورهم يسيل القيح من أفواههم يقذّرهم أهل الجمع، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم، وبعضهم مصلّبين على جذوع من نار، وبعضهم أشدّ نتناً من الجيف، وبعضهم يلبسون جباباً سابغة من قطران لازقة بجلودهم، فأما الذين على صورة القردة فالقتّات من الناس يعني النّمام وأما الذين على صورة الخنازير فأهل السحت، والمنكسين على وجوههم فأكلة الربا، والعمي من يجور في الحكم، والصمّ والبكمّ المعجبون بأعمالهم، والذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء والقصاص الذين خالف قولهم أعمالهم، والمقطّعة أيديهم وأرجلهم الذين يؤذون الجيران، والمصلّبين على جذوع من نار فالسعاة بالناس إلى السلطان، والذين هم أشد نتناً من الجيف فالذين يتمتعون بالشهوات واللذات ومنعوا حق الله سبحانه من أموالهم، والذين يلبسون الجباب فأهل الكبر والفخر والخيلاء" .
{ وَفُتِحَتِ ٱلسَّمَآءُ } قرأ أهل الكوفة بالتخفيف وغيرهم بالتشديد. { فَكَانَتْ أَبْوَاباً } أي شقت لنزول الملائكة، وقيل: شقت حتى جعلت كالأبواب قطعاً، وقيل: تنحلّ وتتناثر حتى تصير فيها أبواب وطرق وقيل: إنّ لكل عبد بابين في السماء: باب لعمله وباب لرزقه، فإذا قامت القيامة انفتحت الأبواب.
{ وَسُيِّرَتِ ٱلْجِبَالُ } عن وجه الأرض { فَكَانَتْ سَرَاباً } كالسراب { إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً } طريقاً وممراً فلا سبيل إلى الجنة حتى تقطع النار، وقال مقاتل: محبساً { لِّلطَّاغِينَ } للكافرين { مَآباً * لاَّبِثِينَ } قرأه العامة بالألف وقرأ علقمة وحمزة: لبثين بغير ألف وهما لغتان { فِيهَآ أَحْقَاباً } جمع حقب والحقب جمع حقبة كقول متمم:

وكنا كندماني جذيمة حقبةًمن الدهر حتى قيل لن يتصدّعا

واختلف العلماء في معنى الحقب فقال قوم: هو اسم للزمان والدّهر وليس له حدّ، وروى أبو الضحى عن ابن مسعود قال: لا يعلم عدد الأحقاب إلاّ الله عزّوجل، وقال آخرون: هو محدود. ثم اختلفوا في مبلغ مدّته فقال طارق بن عبد الرحمن: دعاني شيخ بين الصفا والمروة فإذا عنده كتاب عبد الله بن عمرو { لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً } ان الحقب أربعون سنة كلّ يوم منها ألف سنة، وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا موسى بن محمد وابن حسن قالا: حدّثنا محمد بن عمران قال: حدّثنا ابن المقري وأبو عبيد الله قالا: حدّثنا [محمد بن يحيى] العرني عن سفيان عن عمّار الدهني قال: قال علي بن أبي طالب لهلال الهجري: ما يجدون في الحقب في كتاب الله المنزل قال: يجده في كتاب الله ثمانين سنة كل سنة اثنا عشر شهراً لكل شهر ثلاثون يوماً كل يوم ألف سنة.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا محمد بن عبد الله بن محمد بن الفتح قال: حدّثنا أبو حامد محمد بن هارون الحضرمي قال: حدّثنا زياد بن أبي يزيد قال: حدّثنا سليمان بن مسلم عن سليمان الحتمي عن نافع عن [ابن عمر] عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"والله لا يخرج من النار من دخلها حتى يكونوا فيها أحقاباً، والحقب بضع وثمانين سنة، والسنة ثلثمائة وستون ويوماً، كل يوم ألف سنة مما تعدون، فلا يتكّلنّ أحد على أن يخرج من النار" .
وقال أُبي بن كعب: بلغني أن الحقب ثلثمائة سنة كل سنة ثلثمائة وستون يوماً كلّ يوم ألف سنة، وقال الحسن: إنّ الله سبحانه لم يذكر شيئاً إلاّ وجعل له مدّة ينقطع إليها ولم يجعل لأهل النار مدّة بل قال: { لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً } فوالله ما هو إلاّ أنه إذا مضى حقب دخل آخر ثم آخر ثم آخر كذلك إلى أبد الآبدين فليس للأحقاب عدة إلاّ الخلود في النار ولكن قد ذكروا أن الحقب الواحد سبعون ألف سنة كل يوم منها ألف سنة ممّا نعده، وقال مقاتل بن حيان: الحقب الواحد سبع عشرة ألف سنة، وقال وهذه الآية منسوخة { فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً } [النبأ: 30] يعني أن العدد قد ارتفع والخلود قد حصل، وقال بعض العلماء مجاز الآية { لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً }: لا يذوقون في تلك الأحقاب إلاّ حميماً وغساقاً ثم يلبثون أحقاباً يذوقون حرّ الحميم، والغساق من أنواع العذاب، فهو توقيت لأنواع العذاب لا بمكثهم في النار.
{ لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً } يشفيهم من الحر إلاّ الغسّاق وهو الزمهرير، وقيل صديد أهل السعير، وقال الثمالي: دموعهم، وقال شهر بن حوشب: الغسّاق واد في النار فيه ثلثمائة وثلاثون شعباً في كل شعب ثلثمائة وثلاثون بيتاً في كل بيت أربع زوايا في كلّ زاوية شجاع كأعظم ما خلقه الله سبحانه من خلقه في رأس كل شجاع سم.
{ وَلاَ شَرَاباً } يرويهم من العطش، { إِلاَّ حَمِيماً } وأنبأني عبد الله بن حامد قال: أخبرنا حامد بن محمد قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حماد قال: حدّثنا محمد بن علي الحسن الشقيقي قال: سألت أبا معاذ النحوي الفضل بن خالد المروزي يقول في قوله سبحانه: { لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً } قال: البرد: النوم، ومثله قال الكسائي وأبو عبيده وانشدوا فيه:

بردت مراشفها عليّ فصدّنيعنها وعن قبلاتها البردُ

والعرب تقول: منع البُرد البرد، يعني أذهب البردُ النوم، قال الفراء: إنّ النوم ليبرّد صاحبه وإنّ العطشان لينام فيبرد غليله؛ فلذلك سمي النوم برداً، قال الشاعر:

وان شئت حرّمت النساء سواكموان شئت لم أطعم نقاخاً ولا بردا

وقال الحسن وعطاء: لا يذوقون فيها برداً أي روّحاً وراحة.
{ جَزَآءً } نصب على المصدر، مجازه: جازيناهم جزاء.
{ وِفَاقاً } وافق أعمالهم وفاقاً كما نقول: قاتل قتالا عن الأخفش، وقال الفراء: هو جمع وفق والوفق واللفق واحد، قال الربيع: جزاء بحسب أعمالهم، الضحاك: على قدر أعمالهم، مقاتل: وافق العذاب الذنب فلا ذنب أعظم من الشرك ولا عذاب أعظم من النار، الحسن وعكرمة: كانت أعمالهم سيئة فأثابهم الله بما يسوءهم.
{ إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ } يخافون { حِسَاباً * وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا كِذَّاباً } تكذيباً قال الفراء: هي لغة يمانية فصيحة، يقولون: كذّب كذّاباً، وخرّقت القميص خرّاقا، كل فعّلت فمصدرها فعّال في لغتهم مشدّد، قال: وقال لي إعرابي منهم: علي المروّة ستفتيني الحلاق أحب إليك أم القصاب وأنشدني بعض بني كلاب:

لقد طال (ما ثبطتني) عن صحابيوعن حوج قضّاؤها من شفائناً

{ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً * فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً } أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا السنّي قال: أخبرني ابن منجويه قال: حدّثنا أبو داود الحراني قال: حدّثنا شعيب بن حيان قال: حدّثنا مهدي بن ميمون قال: حدّثنا وسمعت "الحسن بن دينار سأل الحسن عن أشد آية في القرآن على أهل النار فقال الحسن: سألت أبا برزة الأسلمي فقال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: فذوقا فلن نزيدكم إلاّ عذاباً" .