التفاسير

< >
عرض

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ٱلْغَاشِيَةِ
١
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ
٢
عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ
٣
تَصْلَىٰ نَاراً حَامِيَةً
٤
تُسْقَىٰ مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ
٥
لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ
٦
لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِن جُوعٍ
٧
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ
٨
لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ
٩
فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ
١٠
لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً
١١
فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ
١٢
فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ
١٣
وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ
١٤
وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ
١٥
وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ
١٦
أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى ٱلإِبْلِ كَيْفَ خُلِقَتْ
١٧
وَإِلَى ٱلسَّمَآءِ كَيْفَ رُفِعَتْ
١٨
وَإِلَىٰ ٱلْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ
١٩
وَإِلَى ٱلأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ
٢٠
-الغاشية

الكشف والبيان

{ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ٱلْغَاشِيَةِ } يعني القيامة يغشي كلّ شيء إلاّ هو، هذا قول أكثر المفسّرين.
وقال سعيد بن جبير ومحمّد بن كعب: الغاشية النار. دليله قوله سبحانه:
{ { وَتَغْشَىٰ وُجُوهَهُمُ ٱلنَّارُ } [إبراهيم: 50].
{ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ } يعني يوم القيامة، وقيل: في النار { خَاشِعَةٌ } ذليلة { عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ } قال بعضهم: يعني عاملة في النار ناصبة فيها، قال الحسن وسعيد بن جبير: لم تعمل لله سبحانه وتعالى في الدنيا، فأعملها وأنصبها في النار لمعالجة السلاسل والأغلال، وهي رواية العوفي عن ابن عبّاس قال قتادة: نكرت في الدنيا من طاعة فأعملها وأنصبها في النار.
وقال الكلبي: يُجرّون على وجوههم في النار. الضحّاك: يكلّفون ارتقاء جبل من حديد في النار، والنصّب الدؤوب في العمل.
وقال عكرمة والسدّي: عاملة في الدنيا بالمعاصي، ناصبة في النار يوم القيامة، وقال سعيد ابن جبير وزيد بن أسلم: هم الرهبان وأصحاب الصوامع، وهي رواية أبي الضحى عن ابن عبّاس.
{ تَصْلَىٰ نَاراً حَامِيَةً } قال ابن مسعود: تخوض في النار كما تخوض الإبل في الوحل.
قراءة العامّة بفتح التاء، وقرأ أبو عمرو ويعقوب وأبو بكر بضمّها اعتباراً بقوله: { تُسْقَىٰ مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ } حارّة. قال قتادة: قد أتى طبخها منذ خلق الله السماوات والأرض.
{ لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ } قال محمد وعكرمة وقتادة: وهو نبت ذو شوك لاطي بالأرض تسمّيه فرش الشرق، فإذا هاج سمّوه الضريع، وهو أخبث طعام وأبشعه، وهي رواية العوفي عن ابن عبّاس، الوالي عنه: هو شجر من نار، وقال ابن زيد: أمّا في الدنيا فإنّ الضريع الشوك اليابس الذي ليس له ورق، تدعوه العرب الضريع، وهو في الآخرة شوك من نار.
وقال الكلبي: لا تقربه دابّة إذا يبس، ولا يرعاه شيء، وقال سعيد بن جبير هو الحجارة، عطاء عن ابن عبّاس: هو شيء يطرحه البحر المالح، يسمّيه أهل اليمن الضريع، وقد روي عن ابن عبّاس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال:
"الضريع شيء يكون في النار شبه الشوك، أمرّ من الصبر وأنتن من الجيفة وأشدّ حرّاً من النار" سمّاه النبيّ ضريعاً، وقال عمرو بن عبيد: لم يقل الحسن في الضريع شيئاً، إلاّ أنّه قال: هو بعض ما أخفى الله من العذاب، وقال ابن كيسان: هو طعام يضّرعون منه ويذلّون ويتضرّعون إلى الله سبحانه، وعلى هذا التأويل يكون المعنى المضرّع.
وقال أبو الدرداء والحسن: يُقبّح الله سبحانه وجوه أهل النار يوم القيامة يشبهها بعملهم القبيح في الدنيا، ويُحسن وجوه أهل الجنّة يشبّهها بأعمالهم الحسنة في الدنيا، وأنّ الله سبحانه يرسل على أهل النار الجوع حتّى يعدل عندهم ما هم فيه من العذاب، فيستغيثون فيُغاثون بالضريع ويستغيثون فيُغاثون بطعام ذي غصّة، فيذكرون أنّهم كانوا يخبزون الغصص في الدنيا بالماء فيستسقون بعطشهم ألف سنة، ثمّ يُسقون من عين آنية لا هنيّة ولا مريّة، فكلّما أدنوه من وجوههم سلخ جلودَ وجوههم وشواها، فإذا وصل إلى بطونهم قطّعها، فذلك قوله سبحانه:
{ { وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ } [محمد: 15].
قال المفسِّرون: فلمّا نزلت هذه الآية قال المشركون: إنّ إبلنا لتسمن على الضريع، فأنزل الله سبحانه: { لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِن جُوعٍ } ويقول: فإنّ الإبل ترعاهُ ما دام رطباً، فإذا يبسَ فلا يأكلهُ شيء ورطبه يسمّى شبرقاً لا ضريعاً.
{ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ * لِّسَعْيِهَا } في الدنيا { رَاضِيَةٌ } في الآخرة حين أُعطيت الجنّة بعملها ومجازات لثواب سعيها في الآخرة راضية { فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً } لغو وباطل، وقيل: حلف كاذب. { فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ * فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ } ووسائد ومرافق { مَصْفُوفَةٌ } بعضها بجنب بعض، واحدتها نمرقة. قال الشاعر:

كهول وشبّان حسان وجوههمعلى سرر مصفوفة ونمارق

{ وَزَرَابِيُّ } يعني البسط العريضة. قال ابن عبّاس: هي الطنافس التي لها خمل رقيق، واحدتها زريبة. { مَبْثُوثَةٌ } مبسوطة وقيل: متفرّقة في المجالس. { أَفَلاَ يَنظُرُونَ } الآية، قال المفسِّرون لمّا نعت الله ما في الجنّة في هذه السورة عجب من ذلك أهل الكفر والضلالة وكذبوا بها، فذكرهم الله سبحانه صنعهُ فقال عزَّ من قائل: { أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى ٱلإِبْلِ كَيْفَ خُلِقَتْ }.
وكانت الإبل من عيش العرب ومن حولهم، وتكلّمت الحكماء في وجه تخصيص الله سبحانه الإبل من بين سائر الحيوانات، فقال مقاتل: لأنّهم لم يروا قط بهيمةً أعظم منها، ولم يشاهدوا الفيل إلاّ الشاذّ منهم، وقال الكلبي: لأنّها تنهض بحملها وهي باركة؛ لأنّه وليس شيء من الحيوانات سابقها ولا سائقها غيرها، وقال قتادة: ذكر الله سبحانه ارتفاع سرر الجنّة وفرشها فقالوا: كيف نصعد؟ فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
وسُئل الحسن عن هذه الآية وقيل له: الفيل أعظم في الاعجوبة؟ فقال: أمّا الفيل فالعرب بعيدو العهد بها، ثمّ هو خنزير لا يركب ظهرها ولا يأكل لحمها ولا يُحلب درها، والإبل من أعزّ مال العرب وأنفسه.
وقال الحسن: إنّما يأكلون النوى والقت ويخرج اللبن، وقيل: لأنّها في عظمة تلين للحمل الثقيل وتنقاد للقائد الضعيف حتّى أنّ الصبي الصغير يأخذ بزمامها فيذهب بها حيث يشاء.
وحكى الأُستاذ أبو القاسم بن حبيب أنّه رأى في بعض التفاسير أنّ فأرة أخذت بزمام ناقة، فجعلت تجرّ بها والناقة تتبعها، حتّى دخلت الجحر فجرّت الزمام فتحرّكت فجرّته فقربت فمها من جحر الفأر. فسبحان الذي قدّرها وسخّرها.
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله قال: حدّثنا محمد بن العلاء قال: حدّثنا وكيع عن يونس بن أبي إسحاق عن أبيه عن شريح أنّه كان يقول: اخرجوا بنا إلى الكناسة حتّى ننظر إلى الإبل كيف خُلقت.
وقيل: الإبل هاهنا السحاب، ولم أجد لذلك أصلاً في كتب الأئمّة { وَإِلَى ٱلسَّمَآءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَىٰ ٱلْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى ٱلأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ } بسطت، وقال أنس بن مالك: صلّيت خلف علي بن أبي طالب فقرأ "أَفَلاَ تَنظُرُونَ إِلَى الإِبْلِ كَيْفَ خُلِقَتْ" وكذلك رُفعت ونُصبت وسطّحت برفع التاء، وقرأ الحسن سطّحت بالتشديد.