التفاسير

< >
عرض

وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ٱسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلاَمَ ٱللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ
٦
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِندَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ فَمَا ٱسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَٱسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَّقِينَ
٧
كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَىٰ قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ
٨
ٱشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
٩
لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُعْتَدُونَ
١٠
فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَٰوةَ فَإِخْوَٰنُكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَنُفَصِّلُ ٱلأيَـٰتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
١١
-التوبة

الكشف والبيان

{ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ٱسْتَجَارَكَ } معناه وإن استجارك أحد، لأن حروف الجر لاتلي غير الفعل يقول الشاعر:

عاود هراة وإن معمورها خربا

أي وإن غرب معمورها. وقال آخر:

أتجزع إن نفس أتاها حمامهافهلاّ التي عن بين جنبيك تدفع

ومعنى الآية: وإن أحد من المشركين الذين أمرتك بقتالهم وقبلهم استجارك أي استعاذ بك واستأمنك بعد انسلاخ الأشهر الحرم ليسمع كلام الله { فَأَجِرْهُ } فأعذه وأمنه { حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلاَمَ ٱللَّهِ } فتقيم عليه حجة الله، وتبين له دين الله عز وجل، فإن أسلم فقد نال عز الإسلام وخير الدنيا والآخرة وصار رجلاً من المسلمين، وإن أبى أن يسلم { ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ } دار قومه فإن قاتلك بعد ذلك فقدرت عليه فاقتله { ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ } دين الله وتوحيده.
قال الحسن: وهذه الآية محكمة إلى يوم القيامة وليست بمنسوخة. قال سعيد بن جبير: جاء رجل من المشركين إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال: إن أراد الرجل منا أن يأتي محمداً بعد انقضاء هذا الأجل يسمع كلامه أو يأتيه لحاجته، فقال علي لا لأن الله عز وجل يقول: { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ٱسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ } الآية.
{ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ } على [معنى] التعجب، ومعناه جحد أي لا يكون لهم عهد، كما تقول في الكلام: هل أنت إلا واحد منّا، أي أنت، وكيف يستيقن مثلك؟ أي لايستيقن، ومنه: هل أنت إلا أصبع دميتِ وفي سبيل الله ما لقيتِ ثم استثنى فقال: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِندَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } واختلفوا فيه فقال ابن عياش: هم قريش، وقال قتادة وابن زيد: هم أهل مكة الذين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، قال الله عز وجل { فَمَا ٱسْتَقَامُواْ لَكُمْ } على العهد { فَٱسْتَقِيمُواْ لَهُمْ } قالوا: فلم يستقيموا ونقضوا العهد وأعانوا بني بكر على خزاعة، فضرب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح بأربعة أشهر يختارون من أمرهم أما أن يسلموا، واما أن يلحقوا بأي بلاد شاؤوا، فأسلموا قبل الأربعة أشهر.
قال السدي وابن إسحاق والكلبي: هم من قبائل بكر بن خزيمة وهو مدلج وبنو ضمرة وبنو الدئل، وهم الذين كانوا قد دخلوا في عهد قريش، وعقدهم يوم الحديبية إلى المدة التي كانت بين رسول الله وبين قريش، فلم يكن نقضها إلا قريش وبنو الدئل من بني بكر، فأمر بأتمام العهد لمن لم يكن نقض من بني بكر إلى مدته، وهذا القول أقرب إلى الصواب، لأن هذه الآيات نزلت بعد نقض قريش العهد وبعد فتح مكة، فكيف يأتي شيء قد مضى.
{ فَمَا ٱسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَٱسْتَقِيمُواْ لَهُم } وإنما هم الذين قال الله عز وجل إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً كما نقصكم قريش، ولم يظاهروا عليكم أحد كما ظاهرت (من) قريش بني بكر على خزاعة (سلفا) رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ).
{ كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ } مردود على الآية الأُولى تقديره: كيف يكون لهؤلاء عهودٌ وهم إن يظهروا عليكم يظفروا فيقتلوكم] { لاَ يَرْقُبُواْ } قال ابن عباس: لا يحفظوا، وقال الاخفش: كيف لايقتلونهم، وقال الضحاك: لا ينتظروا، وقال قطرب: لا يراعوا { فِيكُمْ إِلاًّ } قال ابن عباس والضحاك: قرابة، وقال يمان: رحِماً، دليله قول حسان:

لعمرك إنّ إلّك من قريشكإلّ السقب من رأل النعام

وقال قتادة: الإلّ: الحلف، دليله قول أوس بن حجر:

لولا بنو مالك والالّ من فيهومالك فهم اللألاء والشرف

وقال السدّي وابن زيد: هو العهد، ولكنه لما اختلف اللفظان كرّر وإن كان معناهما واحداً كقول الشاعر:

وألفى قولها كذبا ومينا

وهو إحدى الروايتين عن مجاهد يدلّ عليه قول الشاعر:

وجدناهُم كاذباً إلّهموذو الإلّ والعهد لا يكذب

وقيل: هو اليمين والميثاق، وقال أبو مجلز ومجاهد في ساير الروايات: الإلّ هو الله عز وجل، وكان عبيد بن عميرة يقرأ جبرإلّ بالتشديد، يعني عبد الله، وفي الخبر أنّ ناساً قدموا على أبي بكر الصديق رضي الله عنه من قوم المسلمين فاستقرأهم أبو بكر كتاب مسيلمة فقرأوا، فقال أبو بكر: إن هذا الكلام لم يخرج من إلّ.
والدليل على هذا التأويل قراءة عكرمة: لايرقبون في مؤمن ايلاً، بالياء يعني بالله عز وجل مثل جبرئيل وميكائيل { وَلاَ ذِمَّةً } عهداً وجمعها ذمم، وقيل: تذمماً ممن لا عهد له { يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ } يعطونكم ويرونكم بألسنتهم خلاف مافي قلوبهم مثل قول المنافقين { وَتَأْبَىٰ قُلُوبُهُمْ } الإيمان { وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ } ناكثون ناقضون كافرون.
{ ٱشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً } وذلك أنّهم نقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا أطعمهم أبو سفيان بن حرب، وقال مجاهد: أطعم أبو سفيان حلفاً وترك حلف محمد صلى الله عليه وسلم { فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ } فمنعوا الناس عن دينه وعن الدخول فيه، قال عطاء كان أبو سفيان يعطي الناقة والطعام ليصدّ الناس بذلك عن متابعة النبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن عباس: وذلك أن أهل الطائف أمدِّوهم بالأموال ليقوّوهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعداوته.
{ إِنَّهُمْ سَآءَ } بئس { مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً } يقول: لا تبقوا عليهم أيّها المؤمنون كما لا يبقون عليكم لو ظهروا عليكم.
{ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُعْتَدُونَ } بنقض العهد { فَإِن تَابُواْ } من الشرك { وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتَوُاْ ٱلزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ } يعني فهم أخوانكم { فِي ٱلدِّينِ } لهم ما لكم وعليهم ما عليكم { وَنُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } قال ابن عباس: حرّمت هذه الآية دماء أهل القبلة.
وقال ابن زيد: افترض الصلاة والزكاة جميعاً ولم يفرق بينهما، وأبى أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة،وقال: يرحم الله أبا بكر فكان ماأفقهه، وقال ابن مسعود: أُمرتم بالصلاة والزكاة فمن لم يزكِّ لاصلاة له.