التفاسير

< >
عرض

لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاَّتَّبَعُوكَ وَلَـٰكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ ٱلشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ لَوِ ٱسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
٤٢
عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ ٱلْكَاذِبِينَ
٤٣
لاَ يَسْتَأْذِنُكَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلْمُتَّقِينَ
٤٤
إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَٱرْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ
٤٥
وَلَوْ أَرَادُواْ ٱلْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَـٰكِن كَرِهَ ٱللَّهُ ٱنبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ ٱقْعُدُواْ مَعَ ٱلْقَاعِدِينَ
٤٦
لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ ٱلْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمِينَ
٤٧
لَقَدِ ٱبْتَغَوُاْ ٱلْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ ٱلأُمُورَ حَتَّىٰ جَآءَ ٱلْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ ٱللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ
٤٨
وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ٱئْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلا فِي ٱلْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِٱلْكَافِرِينَ
٤٩
-التوبة

الكشف والبيان

ثم نزل في المتخلفين عن غزوة تبوك من المنافقين { لَوْ كَانَ } اسمه مضمر أي لو كان ما يدعوهم إليه { عَرَضاً قَرِيباً } غنيمة حاضرة { وَسَفَراً قَاصِداً } وموضعاً قريباً.
قال المبرّد: قاصداً أي ذا قصد نحو تامر ولابن، وقيل: هو طريق مقصود فجعلت صفته على [فاعلة بمعنى مفعولة] كقوله
{ { عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } [الحاقة: 21] أي مرضية. { لاَّتَّبَعُوكَ وَلَـٰكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ ٱلشُّقَّةُ } يعني المسافة وقال الكسائي: هي الغزاة التي يخرجون إليها، وقال قطرب: هي السفر البعيد سمّيت شقة لأنّها تشقّ على الانسان، والقراءة بضم الشين وهي اللغة الغالبة، وقرأ عبيد ابن عمير بكسر الشين وهي لغة قيس.
{ وَسَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ لَوِ ٱسْتَطَعْنَا } قرأ الأعمش بضم الواو لأن أصل الواو الضمة، وقرأ الحسن بفتح الواو لأن الفتح أخفّ الحركات، وقرأ الباقون بالكسر لأن الجزم يحرّك بالكسر { لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ } بالحلف الكاذب { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } في أيمانهم [واعتلالهم] { عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ } قدّم العفو على القتل.
قال قتادة وعمرو بن ميمون: شيئان فعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يؤمر بهما: إذنه للمنافقين وأخذه من الأُسارى الفدية فعاتبه الله كما تسمعون.
وقال بعضهم: إنّ الله عز وجل وقّره ورفع محله [فهو افتتاح] الكلام بالدعاء له، كما يقول الرجل لمخاطبه إن كان كريماً عنده: عفا الله عنك ماصنعت في حاجتي ورضي الله عنك إلاّ زرتني، وقيل: معناه: أدام الله لك العفو.
{ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ } في أعذارهم { وَتَعْلَمَ ٱلْكَاذِبِينَ } فيها { لاَ يَسْتَأْذِنُكَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } إلى قوله تعالى { وَٱرْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ } شكّت ونافقت قلوبهم { فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ } متحيّرين، { ولو أرادوا الخروج } إلى الغزو { لأَعَدُّواْ } لهيّأوا { لَهُ عُدَّةً } وهي المتاع والكراع { وَلَـٰكِن كَرِهَ ٱللَّهُ } لم يرد الله { ٱنبِعَاثَهُمْ } [خروجهم] { فَثَبَّطَهُمْ } فمنعهم وحبسهم { وَقِيلَ ٱقْعُدُواْ } في بيوتكم { مَعَ ٱلْقَاعِدِينَ } يعني المرضى والزمنى، وقيل: النساء والصبيان.
{ لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم } الآية، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس بالجهاد لغزوة تبوك، فلمّا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وعسكره على ثنيّة الوداع، ولم يكن بأقلّ العسكرين، فلمّا سار رسول الله صلى الله عليه وسلم تخلف عنه عبد الله بن أُبيّ فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب، فأنزل الله تعالى [يعزي] نبيه صلى الله عليه وسلم { لو خرجوا فيكم } يعني المنافقين { مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً } فساداً، وقال الكلبي: شرّاً وقيل: غدراً ومكرا { ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ } يعني ولأوضعوا ركابهم بينكم، يقال: وضعت الناقة تضع وضعاً ووضوعاً إذا أسرعت السير، وأوضعها أيضاعاً أي جدّ بها فأسرع، قال الراجز:

يا ليتني فيها جذعأخبّ فيها وأضعْ
وقال: أقصرْ فإنك طالماأوضعت في إعجالها

قال محمد بن إسحاق يعني: أسرع الفرار في أوساطكم وأصل الخلال من الخلل وهو الفرجة بين الشيئين وبين القوم في الصفوف وغيرها، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "تراصّوا في الصفوف لايخللكم الشيطان كأولاد الحذف" .
{ يَبْغُونَكُمُ ٱلْفِتْنَةَ } أي يبغون لكم، يقول: يطلبون لكم ماتفتنون به، يقولون: لقد جمع [العدو] لكم فعل وفعل، يخبلونكم.
وقال الكلبي: يبغونكم الفتنة يعني الغيب والسر، وقال الضحاك: يعني الكفر، يقال فيه: بغيته أبغيه بغاء إذا التمسته بمعنى بغيت له، ومثله عكمتك إن عكمت لك فيها، وإذا أرادوا أعنتك عليه قالوا: أبغيتك وأحلبتك وأعمكمتك.
{ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } قال مجاهد وابن زيد بينكم عيون لهم عليكم [يوصلون] مايسمعون منكم، وقال قتادة وابن يسار: وفيكم من يسمع كلامهم ويطبعهم { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمِينَ * لَقَدِ ٱبْتَغَوُاْ ٱلْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ } أي عملوا بها لصد أصحابك عن الدين وردهم إلى الكفر بتخذيل الناس عنك قبل هذا اليوم، كفعل عبد الله بن أبي يوم أحد حين انصرف عنك بأصحابه { وَقَلَّبُواْ لَكَ ٱلأُمُورَ } أجالوا فيك وفي إبطال دينك الرأي بالتخذيل عنك وتشتّت أصحابك.
{ حَتَّىٰ جَآءَ ٱلْحَقُّ } أي النصر والظفر { وَظَهَرَ أَمْرُ ٱللَّهِ } دين الله { وَهُمْ كَارِهُونَ * وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ٱئْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي } الآية.
نزلت في جد بن قيس المنافق وذلك
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا تجهّز لغزوة تبوك، قال له: يا أبا وهب، هل لك في جلاد بني الأصفر تتخذ منهم وصفاء، قيل: وإنما أمر بذلك لأن الحبش غلبت على ناحية الروم فولدت لهم بنات قد أنجبت من بياض الروم وسواد الحبشة فكنّ صفر اللعس، فلمّا قال له ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال جد: يارسول الله لقد عرفت قومي أني رجل مغرم بالنساء وأني أخشى إن رأيت بنات الأصفر أن لا أصبر عنهن فلا تفتنّي بهن وائذنْ لي في القعود وأُعينك بمالي، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: قد أذنت لك" ، فأنزل الله [ومنهم] يعني ومن المنافقين [من يقول أئذن لي] في التخلف [ولا تفتنّي] ببنات الأصفر، قال قتادة: ولا تأتمنّي { أَلا فِي ٱلْفِتْنَةِ سَقَطُواْ } ألا في الإثم والشرك وقعوا بخيانتهم وخلافهم أمر الله ورسوله { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِٱلْكَافِرِينَ } مطيقة بهم وجامعتهم فيها، فلما نزلت هذه الآية "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبني سلمة وكان منهم: من سيّدكم؟ قالوا: جدّ بن قيس غير أنه نحيل جبان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وأي داء أدوى من البخل، بل سيّدكم الفتى الأبيض الجعد بشر بن البراء بن معرور،" فقال فيه حسّان:

وقال رسول الله والقول لاحقبمن قال منّا من تعدّون سيّدا
فقلنا له جدّ بن قيس على الذينبخّله فينا وإن كان أنكدا
فقال وأي الداء أدوى من الذيرميتم به جدا وعالى بها يدا
وسوّد بشر بن البراء لجودهوحق لبشر ذي الندى أن يُسوّدا
إذا ما أتاه الوفد أنهب مالهوقال خذوه إنه عائد غدا