التفاسير

< >
عرض

لَمْ يَكُنِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ وَٱلْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ ٱلْبَيِّنَةُ
١
رَسُولٌ مِّنَ ٱللَّهِ يَتْلُواْ صُحُفاً مُّطَهَّرَةً
٢
فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ
٣
وَمَا تَفَرَّقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَةُ
٤
وَمَآ أُمِرُوۤاْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَيُؤْتُواْ ٱلزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ ٱلقَيِّمَةِ
٥
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ وَٱلْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَوْلَـٰئِكَ هُمْ شَرُّ ٱلْبَرِيَّةِ
٦
إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ أُوْلَـٰئِكَ هُمْ خَيْرُ ٱلْبَرِيَّةِ
٧
جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رِّضِىَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ
٨
-البينة

الكشف والبيان

{ لَمْ يَكُنِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ } وهم اليهود والنصارى، والمشركون وهم عبدة الأوثان، { مُنفَكِّينَ } منتهين عن كفرهم وشركهم، وقال أهل اللغة: زائلين، يقول: العرب: ما انفكّ فلان يفعل كذا، أي ما زال، وأصل الفكّ الفتح، ومنه فكّ الكتاب، وفكّ الخلخال، وفكّ البيالم وهي خورنق العطر، قال طرفة:

وآليت لا ينفك كشحي بطانةلعضب رقيق الشفرتين منهد

{ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ ٱلْبَيِّنَةُ } الحجّة الواضحة وهي محمد (عليه السلام) أتاهم بالقرآن فبيّن لهم ضلالتهم وجهالتهم، وهداهم إلى الإيمان، وقال ابن كيسان معناه لم يكن هؤلاء الكفار تاركين صفة محمد (عليه السلام) حتى بعث، فلمّا بعث تفرّقوا فيه.
ثم فسّر البيّنة فقال: { رَسُولٌ مِّنَ ٱللَّهِ }. فأبدل النكرة من المعرفة كقوله:
{ { ذُو ٱلْعَرْشِ ٱلْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [البروج: 15-16].
{ يَتْلُواْ } يقرأ { صُحُفاً } كتباً { مُّطَهَّرَةً } من الباطل { فِيهَا كُتُبٌ } من اللّه { قَيِّمَةٌ } مستقيمة عادلة { وَمَا تَفَرَّقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ } في أمر محمد (عليه السلام) فكذّبوه { إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَةُ } البيان في كتبهم أنه نبيٌّ مرسل.
قال العلماء: من أول السورة إلى قوله: { فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ } حكمها في من آمن من أهل الكتاب والمشركين، { وَمَا تَفَرَّقَ } حكمه في من لم يؤمن من أهل الكتاب بعد قيام الحجج عليها.
قال بعض أئمّة أهل اللغة قوله: { مُنفَكِّينَ } أي هالكين من قوله انفك صلا المرأة عند الولادة وهو أن تنفصل ولا يلتئم فهلك، ومعنى الآية: لم يكونوا هالكين أي معذّبين إلاّ بعد قيام الحجّة عليهم بإرسال الرسول وإنزال الكتب.
وقرأ الأعمش (والمشركون) رفعاً، وفي مصحف عبد اللّه (لم يكن المشركون وأهل الكتاب منفكّين) وفي حرف أُبيّ (ما كان الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكّين حتى تأتيهم البيّنة رسولا من اللّه) بالنصب على القطع والحال.
{ وَمَآ أُمِرُوۤاْ } يعني هؤلاء الكفار { إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ } يعني إلاّ أن يعبدوا اللّه مخلصين له الدين التوحيد والطاعة { حُنَفَآءَ } مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإسلام.
وقال ابن عباس: حجاجاً، وقال قتادة: الحنيفية هي الختان وتحريم الأُمّهات والبنات والأخوات والعمّات والخالات، وإقامة المناسك.
وقال سعيد بن حمزة: لا تسمي العرب حنيفاً إلاّ من حجّ واختتن { وَيُقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَيُؤْتُواْ ٱلزَّكَاةَ وَذَلِكَ } الذي ذكرت { دِينُ ٱلقَيِّمَةِ } المستقيّمة فأضاف الدين إلى القيّمة وهو أمر فيه اختلاف اللفظين وأنّث القيّمة لأنّه رجع بها إلى الملّة والشريعة، وقيل: الهاء فيه للمبالغة.
سمعت أبا القاسم الحنبلي يقول: سمعت أبا سهل محمد بن محمد بن الأشعث الطالقاني يقول: إن القيّمة هاهنا الكتب التي جرى ذكرها، والدين مضاف إليها على معنى: وذلك دين الكتب القيّمة فيما يدعو إليه ويأمر به، نظيرها قوله سبحانه:
{ { وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ فِيمَا ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ } [البقرة: 213].
وقال النضر بن شميل: سألت الخليل بن أحمد عن قوله سبحانه: { وَذَلِكَ دِينُ ٱلقَيِّمَةِ } فقال: القيّمة جمع القيّم، والقيّم [والقائم] واحد ومجاز الآية: وذلك دين القائمين لك بالتوحيد.
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ وَٱلْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَوْلَـٰئِكَ هُمْ شَرُّ ٱلْبَرِيَّةِ } الخليقة، قرأ نافع البرئة بالهمزة في الحرفين ومثله روى ابن ذكوان عن أهل الشام على الأصل لأنه من قولهم: برأ اللّه الخلق يبرأهم برءاً، قال اللّه سبحانه:
{ { مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ } [الحديد: 22]، وقرأ الآخرون بالتشديد من غير همزة، ولها وجهان:
أحدهما أنه ترك الهمزة وأدخل الشبه به عوضاً منه.
والآخر أن يكون (فعيلة) من البراء وهو التراب، تقول العرب: بفيك البراء فمجازه: المخلوقون من التراب.
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ أُوْلَـٰئِكَ هُمْ خَيْرُ ٱلْبَرِيَّةِ * جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رِّضِىَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ }.
قال الصادق رضي الله عنه: بما كان سبق لهم من العناية والتوفيق، ورضوا عنه بما منَّ عليهم بمتابعتهم لرسوله، وقبولهم ما جاءهم به، أي أن بيان رضا الخلق عن اللّه رضاهم بما يرد عليهم من أحكامه ورضاه عنهم أن يوفّقهم للرضا عنه".
محمد بن الفضيل: الرَّوح والراحة في الرضا واليقين، والرضا باب اللّه الأعظم ومستراح العابدين. محمد بن حقيق: الرضا ينقسم قسمين: رضاً به ورضاً عنه، فالرضا به ربّاً ومدبّراً، والرضا عنه فيما يقضي ويقدّر.
وقيل: الرضا رفع الاختيار. ذي النون: الرضا: سرور القلب لمرِّ القضاء. حارث: الرضا سكون القلب تحت جريان الحكم. أبو عمرو الدمشقي: الرضا نهاية الصبر. أبو بكر بن طاهر: الرضا خروج الكراهية من القلب حتى لا يكون إلاّ فرح وسرور. الواسطي: هو النظر إلى الأشياء يعني الرضا حتى لا يسخطك شيء إلاّ ما يسخِط مولاك. ابن عطاء: هو النظر إلى قديم إحسان اللّه للعبد فيترك السخط عليه.
سمعت محمد بن الحسين بن محمد يقول: سمعت محمد بن أحمد بن إبراهيم يقول: سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت علي بن عبد الحميد يقول: سمعت السهمي يقول: إذا كنت لا ترضى عن اللّه فكيف تسأله الرضا عنك؟.