التفاسير

< >
عرض

وَإِنَّ كُـلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
١١١
-هود

الدر المصون

قوله تعالى: { وَإِنَّ كُـلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ }: هذه الآيةُ الكريمة مما تَكَلَّم الناسُ فيها قديماً وحديثاً، وعَسُر على أكثرِهم تلخيصُها قراءةً وتخريجاً، وقد سَهَّل اللَّه تعالىٰ، فذكرْتُ أقاويلهم وما هو الراجحُ منها.
فقرأ نافع وابن كثير وأبو بكر عن عاصم: "وإنْ" بالتخفيف، والباقون بالتشديد. وأمَّا "لمَّا" فقرأها مشددةً هنا وفي يس، وفي سورة الزخرف، وفي سورة ٱلسَّمَآءِ وَٱلطَّارِقِ، ابنُ عامر وعاصمٌ وحمزةُ، إلا أن عن ابن عامر في الزخرف خلافاً: فروَىٰ عنه هشامٌ وجهين، وروىٰ عنه ابن ذكوان التخفيفَ فقط، والباقون قرؤوا جميع ذلك بالتخفيف. وتلخص من هذا: أنَّ نافعاً وابن كثير قرآ: "وإنْ" و "لَمَا" مخففتين، وأنَّ أبا بكر عن عاصم خَفَّفَ "إنَّ" وثَقَّل "لمَّا"، وأن ابن عامر وحمزة وحفصاً عن عاصم شددوا "إنَّ" و "لمَّا" معاً، وأن أبا عمرو والكسائي شدَّدا "إنَّ" وخَفَّفا "لَمَّا". فهذه أربعُ مراتب للقراء في هذين الحرفين.
هذا في المتواتر، وأمَّا في الشاذ، فقد قرىء أربعُ قراءاتٍ أُخَر، إحداها: قراءةُ أُبَيّ والحسن وأبان بن تغلب "وإنْ كل" بتخفيفها، ورفع "كل"، "لَمَّا" بالتشديد، الثانية: قراءة اليزيدي وسليمان بن أرقم: "لمَّاً" مشددة منونة، ولم يتعرَّضوا لتخفيف "إنَّ" ولا لتشديدها. الثالثة: قراءة الأعمش وهي في حرف ابن مسعود كذلك: "وإنْ كلٌّ إلا": بتخفيفِ "إنْ" ورفع "كل". الرابعة. قال أبو حاتم: "الذي في مُصْحف أبي { وإنْ مِنْ كلٍ إلا لَيُوَفِّيَنَّهم }.
هذا ما يتعلَّق بها من جهة التلاوة، أمَّا ما يتعلق بها من حيث التخريجُ فقد اضطرب الناسُ فيه اضطراباً كثيراً، حتى قال أبو شامة: "وأمَّا هذه الآيةُ فمعناها على القراءات من أشكلِ الآيات، وتسهيلُ ذلك بعون اللَّه أنْ أذكرَ كلَّ قراءةٍ على حِدَتِها وما قيل فيها.
فأمَّا / قراءةُ الحَرَمِيَّيْن ففيها إعمال إنْ المخففة، وهي لغة ثانية عن العرب. قال سبويه: "حَدَّثَنا مَنْ نثق به أنه سَمع مِن العرب مَنْ يقول: "إنْ عمراً لمنطلقٌ" كما قالوا:

2711 ـ ....................... كأن ثَدْيَيْهِ حُقَّانِ

قال: "ووجهُه مِن القياس أنَّ "إنْ" مُشْبِهَةٌ في نصبها بالفعل، والفعلُ يعمل محذوفاً كما يَعْمل غيرَ محذوف نحو: "لم يكُ زيد منطلقاً" { فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ } [هود: 109] وكذلك لا أَدْرِ". قلت: وهذا مذهبُ البصريين، أعني أنَّ هذه الأحرفَ إذا خُفِّف بعضُها جاز أن تعملَ وأن تُهْمَلَ كـ"إنْ"، والأكثر الإِهمالُ، وقد أُجْمع عليه في قوله: { وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا [مُحْضَرُونَ] }، وبعضُها يجب إعمالُه كـ"أنْ" بالفتح و "كأنْ"، ولكنهما لا يَعْملان في مُظْهَرٍ ولا ضميرٍ بارزٍ إلا ضرورةً، وبعضُها يَجِبُ إهمالُه عند الجمهور كـ"لكن". وأمَّا الكوفيون فيُوجبون الإِهمالَ في "إنْ" المخففةِ، والسَّماعُ حُجَّةٌ عليهم، بدليل هذه القراءة المتواترة. وقد أنشدَ سيبويهِ على إعمالِ هذه الحروفِ مخففةً قولَه:

2712 ـ ......................... كأنْ ظبيةٌ تَعْطُو إلى وارِقِ السَّلَمْ

قال الفراء: "لم نَسْمَعِ العربَ تُخَفِّفُ وتَعْمل إلا مع المكنىٰ كقوله:

2713 - فلو أنْكِ في يومِ الرَّخاء سَأَلْتِني طلاقَكِ لم أَبْخَلْ وأنتِ صديقُ

قال: "لأنَّ المُكْنَىٰ لا يَظْهر فيه إعرابٌ، وأمَّا مع الظاهر فالرفع". قلت: وقد تقدَّم ما أنشده سيبويهِ وقولُ الآخر:

2714 ـ ......................... كأنْ ثَدْيَيْه حُقَّانِ

و [قوله]:

2715 ـ كأنْ وَرِيْدَيْه رِشاءُ خُلْبِ

هذا ما يتعلق بـ"إنْ". وأمَّا "لَمَا" في هذه القراءة فاللامُ فيها هي لامُ "إنْ" الداخلةُ في الخبر. و "ما" يجوز أن تكونَ موصولةً بمعنىٰ الذي واقعةً على مَنْ يَعْقل كقوله تعالىٰ: { فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ } [النساء: 3] فأوقع "ما" على العاقل. واللام في "ليوفِّيَنَّهم" جوابُ قسمٍ مضمر، والجملةُ مِن القسم وجوابِه صلةٌ للموصول، والتقدير: وإنْ كلاً لَلذين واللَّه ليوفيَّنهم. ويجوز أن تكونَ هنا نكرةً موصوفةً، والجملةُ القسميةُ وجوابُها صفةٌ لـ"ما" والتقدير: وإنْ كلاً لخَلْقٌ أو لفريقٌ واللَّهِ ليوفِّيَنَّهم، والموصولُ وصلتُه أو الموصوفُ وصفتُه خبرٌ لـ"إنْ".
وقال بعضُهم: اللامُ الأولى هي الموطِّئةُ للقسَم، ولمَّا اجتمع اللامان، واتفقا في اللفظ فُصِل بينهما بـ"ما" كما فُصِل بالألف بين النونين في "يَضْرِبْنانِّ"، وبين الهمزتين في نحو: أأنت. فظاهرُ هذه العبارة أنَّ "ما" هنا زائدةٌ جي بها للفصل إصلاحاً لِلَّفظ، وعبارةُ الفارسي مُؤْذِنَةٌ بهذا، إلا أنه جَعَلَ اللامَ الأولى لامَ "إنْ" فقال: "العُرْفُ أن تُدْخِل لامَ الابتداء على الخبر، والخبرُ هنا هو القَسَمُ وفيه لام تَدْخل على جوابه، فلمَّا اجتمع اللامان والقسمُ محذوفٌ، واتفقا في اللفظ وفي تَلَقِّي القسم، فَصَلوا بينهما كما فَصَلوا بين إنَّ واللام".
وقد صَرَّح الزمخشري بذلك فقال: "واللامُ في "لَمَا" موطِّئةٌ للقسم و "ما" مزيدةٌ" ونَصَّ الحوفيُّ على أنها لام "إنْ". وقال أبو شامة: "واللامُ في "لَمَا" هي الفارقة بين المخففة من الثقيلة والنافية" وفي هذا نظرٌ؛ لأنَّ الفارقةَ إنما يُؤْتَىٰ بها عند التباسِها بالنافية، والالتباسُ إنما يجيء عند إهمالها نحو: "إنْ زيدٌ لقائم" وهي في الآية الكريمة مُعْمَلة فلا التباسَ بالنافية، فلا يُقال إنها فارقة.
فتلخَّص في كلٍ من اللام و "ما" ثلاثة أوجه، أحدها: في اللام: أنها للابتداء الداخلة على خبر "إنْ". الثاني: لامٌ موطئة للقسم. الثالث: أنَّها جوابُ القسم كُرِّرَتْ تأكيداً. وأحدها في "ما": أنها موصولة. الثاني: أنها نكرة. الثالث: أنها مزيدة للفصل بين اللامين.
وأمَّا قراءةُ أبي بكر ففيها أوجه/، أحدها: ما ذهب إليه الفراء وجماعة من نحاة البصرة والكوفة، وهو أن الأصل: لَمِنْ ما، بكسر الميم على أنها مِنْ الجارة دخلت على "ما" الموصولة" أو الموصوفة كما تقرَّر، أي: لَمِنَ الذين واللَّهِ ليوفِّيَنَّهم، أو لَمِنْ خَلْقٍ واللَّهِ ليوفِّينَّهم، فلمَّا اجتمعت النونُ ساكنةً قبل ميم "ما" وجب إدغامُها فيها فقُلِبَتْ ميماً، وأُدْغمت فصار في اللفظ ثلاثةُ أمثال، فخُفِّفَتْ الكلمةُ بحذف إحداها فصار اللفظُ كما ترىٰ "لمَّا". قال نصر ابن علي الشيرازي: "وَصَلَ "مِنْ" الجارة بـ"ما" فانقلبت النون أيضاً ميماً للإِدغام، فاجتمعت ثلاث ميمات فَحُذِفت إحداهن، فبقي "لمَّا" بالتشديد". قال: و "ما" هنا بمعنى "مَنْ" وهو اسم لجماعة الناس كما قال تعالى: { فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ } أي مَنْ طاب، والمعنى: وإنْ كلاً مِن الذين ليوفِّينَّهم ربُّك أعمالهم، أو جماعة ليوفِّيَنَّهم ربُّك أعمالَهم".
وقد عَيَّن المهدويُّ الميمَ المحذوفة فقال: "حُذِفت الميمُ المكسورة، والتقدير، لَمِنْ خلقٍ ليوفِّيَنَّهم".
الثاني: ما ذهب إليه المهدويُّ ومكي وهو: أن يكونَ الأصل: لمَنْ ما بفتح ميم "مَنْ" على أنها موصولة أو موصوفة، و "ما" بعدها مزيدةٌ فقال: "فقلبت النونُ ميماً، وأُدْغمت في الميم التي بعدها، فاجتمع ثلاثُ ميمات، فحُذِفَت الوُسْطى منهن، وهي المبدلةُ من النون، فقيل "لَمَّا". قال مكي: "والتقدير: وإنْ كلاً لَخَلْقٌ لَيوفينَّهم ربك أعمالهم"، فترجعُ إلى معنىٰ القراءة الأولى بالتخفيف، وهذا الذي حكاه الزجاج عن بعضهم فقال: "زَعَمَ بعضُ النحويين أن أصله لمَنْ ما، ثم قلبت النون ميماً، فاجتمعت ثلاثُ ميمات، فَحُذِفت الوسطى" قال: "وهذا القولُ ليس بشيءٍ، لأنَّ "مَنْ" لا يجوز حَذْفُ بعضها لأنها اسمٌ على حرفين".
وقال النحاس: "قال أبو إسحاق: هذا خطأ، لأنه تُحْذف النونُ مِنْ "مَنْ" فيبقى حرفٌ واحد". وقد رَدَّه الفارسيُّ أيضاً فقال: "إذ لم يَقْوَ الإِدغام على تحريك الساكن قبل الحرف المدغم في نحو "قدم مالك" فأَنْ لا يجوزُ الحَذْفُ أَجْدَرُ" قال: "على أنَّ في هذه السورة ميماتٍ اجتمعَتْ في الإِدغام أكثرَ ممَّا كانَتْ تجتمع في "لَمَنْ ما" ولم يُحذفْ منها شيءٌ، وذلك في قولِه تعالى:
{ وَعَلَىٰ أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ } [هود: 48]، فإذا لم يُحْذَفْ شيءٌ مِنْ هذا فأن لا يُحْذَفَ ثَمَّ أَجْدَرُ". قلت: اجتمع في "أمم ممَّن مَعَك" ثمانيةُ ميماتٍ وذلك أن "أمماً" فيها ميمان وتنوين، والتنوين يُقْلب ميماً لإِدغامه في ميم "مِنْ" ومعنا نونان: نونُ مِنْ الجارة ونون مَنْ الموصولة فيقلبان أيضاً ميماً لإِدغامهما في الميم بعدهما، ومعنا ميم "معك"، فحَصَّل معنا خمسُ ميماتٍ ملفوظٌ بها، وثلاثٌ منقلبةٌ إحداها عن تنوين، واثنتان نون.
واستدلَّ الفراء على أن أصل "لَمَّا"لمِنْ ما" بقول الشاعر:

2716 ـ وإنَّا لمِنْ ما نَضْرِبُ الكبشَ ضَرْبَةً على رأسِه تُلقي اللسانَ من الفم

وبقول الآخر:

2717 ـ وإني لَمِنْ ما أُصْدِرُ الأمرَ وجهَه إذا هو أَعْيا بالسبيل مصادرُهْ

قلت: وقد تقدَّم في سورة آل عمران في قراءة مَنْ قرأ { وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ ٱلنَّبِيِّيْنَ لَمَآ آتَيْتُكُم } [آل عمران: 81] بتشديد "لمَّا" أن الأصل: "لمن ما" فَفُعل فيه ما تقدَّم، وهذا أحد الأوجه المذكورة في تخريج هذا الحرف في سورته، وذكرْتُ ما قاله الناسُ فيه، فعليك بالنظر فيه.
وقال أبو شامة: "وما قاله الفراء استنباطٌ حسنٌ وهو قريبٌ من قولهم:
{ لَّكِنَّ هُوَ ٱللَّهُ رَبِّي } [الكهف: 38] إن أصله: لكن أنا، ثم حُذِفت الهمزة، وأُدْغِمَتِ النونُ في النون، وكذا قولهم: "أمَّا أنت منطلقاً انطلقت، قالوا: المعنىٰ لأِنْ كنتَ منطلقاً". قلت: وفيما قاله نظرٌ؛ لأنه ليس فيه حَذْفٌ البتةَ، وإنما كان يَحْسُنُ التنظيرُ أن لو كان فيما جاء به إدغامٌ، ثم حُذف، وأمَّا مجرَّدُ التنظير بالقلبِ والإِدغامِ فغيرُ طائلٍ.
ثم قال أبو شامة: "وما أحسنَ ما استخرج الشاهد من البيت" يعني الفراء، ثم الفراء أراد أن يجمع بين قراءتَي/ التخفيف والتشديدِ مِنْ "لمَّا" في معنى واحد فقال: "ثُمَّ تُخَفَّفُ كما قرأ بعض القراء { وَٱلْبَغْيِ يَعِظُكُمْ } [النحل: 90]. بحذف الياء عند الياء، أنشدني الكسائي:

2718 ـ وأَشْمَتَّ العُداةَ بنا فأَضْحَوا لَدَيْ يَتباشَرُون بما لَقِينا

فحذف ياءَه لاجتماع الياءات". قلت: الأَوْلى أن يُقال: حُذِفت ياءُ الإِضافة مِنْ "لديّ" فبقيت الياءُ الساكنةُ قبلَها المنقلبةُ من الألف في "لدىٰ" وهو مِثْلُ قراءةِ مَنْ قرأ { يٰبُنَيْ } بالإِسكان على ما سَبَق، وأمَّا الياء مِنْ "يتباشرون" فثابتةٌ لدلالتها على المضارعة.
ثم قال الفراء: "ومثلُه:

2719 ـ كأنَّ مِنْ آخِرِها إلقادِمِ

يريد: إلى القادم، فحذف اللام عند اللام". قلت: توجيهُ قولهم: "من آخرها إلقادم" أن ألف "إلى" حُذِفَتْ لالتقاء الساكنين، وذلك أن ألف "إلى" ساكنة ولام التعريف من "القادم" ساكنةٌ، وهمزةُ الوصل حُذِفت دَرْجاً، فلمَّا التقيا حُذِف أولهما فالتقى لامان: لامُ "إلى" ولامُ التعريف، فحُذِفت الثانيةُ على رأيه، والأَوْلى حَذْفُ الأُوْلى؛ لأنَّ الثانيةَ دالة على التعريف لم يَبْقَ مِنْ حرف "إلى" غير الهمزة فاتصلت بلام "القادم" فبقيَتِ الهمزةُ على كسرها، فلهذا تَلَفَّظ بهذه الكلمة مِنْ آخرها: "ءِ القادم" بهمزة مكسورةٍ ثابتة درجاً لأنها همزةُ القطع.
قال أبو شامة: "وهذا قريبٌ مِنْ قولهم "مِلْكذب" و "عَلْماءِ بنو فلان" و "بَلْعنبر" يريدون: من الكذب، وعلى الماء بنو فلان، وبنو العنبر". قلت: يريد قوله:

2720 ـ أبْلِغْ أبا دَخْتنوسَ مَأْلُكَةً غيرُ الذي [قد] يُقال مِلْكذب

وقول الآخر:

2721 - فما سَبَقَ القَيْسِيَّ مِن سُوءِ فِعْلِهِ ولكنْ طَفَتْ عَلْماءِ غُرْلَةُ خالدِ

وقد ردَّ بعضُهم قولَ الفراء بأنَّ نونَ "مِنْ" لا تُحْذف إلا في ضرورة وأنشد: مِلكذبِ.
الثالث: أنَّ أصلَها "لَما" بالتخفيف ثم شُدِّدت، وإلى هذا ذهب أبو عثمان. قال الزجاج: "وهذا ليس بشيءٍ لأنَّا لَسْنا نُثَقِّل ما كان على حرفين، وأيضاً فلغةُ العرب على العكس من ذلك يُخَفِّفون ما كان مثقَّلاً نحو: "رُبَ" في "رُبَّ". وقيل في توجيهه: إنما يكونُ في الحرف إذا كان آخراً، والميم هنا حشوٌ لأن الألف بعدها، إلا أن يقال: إنه أجرىٰ الحرف المتوسط مُجرى المتأخر كقوله:

2722 ـ مثلَ الحريقِ وافَقَ القَصَبَّا

يريد: القصبَ، فلمَّا أشبع الفتحة تولَّد منها ألف، وضعَّف الحرف، وكذلك قوله:

2723 ـ ببازِلٍ وَجْناءَ أو عَيْهَلِّي

شدَّد اللام مع كونِها حَشْواً بياء الإِطلاق. وقد يُفَرَّق بأن الألف والياء في هذين البيتين في حكم المطَّرح، لأنهما نشآ من حركةٍ بخلافٍ ألف "لما" فإنها أصليةٌ ثابتة، وبالجملة فهو وجهٌ ضعيفٌ جداً.
الرابع: أن أصلَها "لَمَّاً" بالتنوين ثم بُني منه فَعْلى، فإنْ جَعَلْتَ ألفَه للتأنيث لم تصرِفْه، وإنْ جَعَلْتَها للإِلحاق صَرَفْتَه، وذلك كا قالوا في "تَتْرى" بالتنوين وعدمِه، وهو مأخوذٌ مِنْ قولك لَمَمْتُه أي: جَمَعْته، والتقدير: وإنْ كلاً جميعاً ليوفِّينَّهم، ويكون "جميعاً" فيه معنى التوكيد ككل، ولا شك أن "جميعاً" يفيد معنى زائداً على "كل" عند بعضهم. قال: "ويدل على ذلك قراءةُ مَنْ قرأ "لمَّاً" بالتنوين".
الخامس: أن الأصل "لَمَّاً" بالتنوين أيضاً، ثم أَبْدل التنوينَ ألفاً وقفاً، ثم أَجْرى الوصل مُجْرى الوقف. وقد مَنَع من هذا الوجهِ أبو عبيد قال: "لأن ذلك إنما يجوز في الشعر" يعني إبدالَ التنوين ألفاً وصلاً إجراءً له مُجْرى الوقف، وسيأتي توجيهُ قراءةِ "لَمَّاً" بالتنوين بعد ذلك.
وقال أبو عمرو ابن الحاجب: "استعمالُ "لَمَّا" في هذا المعنى بعيد، وحَذْفُ التنوين مِنْ المنصرف في الوصل أبعدُ، فإن قيل: لَمَّاً فَعْلى من اللَّمِّ، ومُنِعَ الصرف لأجل ألف التأنيث، والمعنىٰ فيه مثل معنى "لمَّاً" المنصرف فهو أبعدُ، إذ لا يُعرف "لمَّا" فَعْلَىٰ بهذا المعنى ولا بغيره، ثم كان يلزَمُ هؤلاء أن يُميلوا كمَنْ أمال، وهو خلافُ الإِجماع، وأن يكتبوها بالياء، وليس ذلك بمستقيم".
السادس: أنَّ "لَمَّا" زائدة كما تزاد "إلا" قاله أبو الفتح وغيرُه، وهذا وجهٌ لا اعتبارٌ به فإنه مبنيٌّ على وجه ضعيف أيضاً، وهو أنَّ "إلا" تأتي زائدةً.
السابع: أنَّ "إنْ" نافيةٌ بمنزلة "ما"، و "لمَّا" بمعنى "إلا" فهي كقوله:
{ إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا } [الطارق: 4] أي: ما كلُّ نفسٍ إلا عليها، { وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ } [الزخرف: 35] أي: ما كل ذلك إلا متاع/. واعتُرِض على هذا الوجه بأنَّ "إنْ" النافية لا تَنْصِبُ الاسمَ بعدها، وهذا اسمٌ منصوب بعدها. وأجاب بعضهم عن ذلك بأن "كلاً" منصوبٌ بإضمار فعلٍ، فقدَّره قومٌ منهم أبو عمر ابن الحاجب: وإنْ أرى كلاً، وإن أعلمُ، ونحوه، قال: "ومِنْ ههنا كانت أقلَّ إشكالاً مِنْ قراءة ابن عامر لقبولها هذا الوجهَ الذي هو غيرُ مستبعَدٍ ذلك الاستبعاد، وإن كان في نصب الاسم الواقع بعد حرف النفي استبعادٌ، ولذلك اختلُفِ في مثلِ قوله:

2724 ـ ألا رجلاً جزاه اللَّه خيراً يَدُلُّ على مُحَصِّلةٍ تَبيتُ

هل هو منصوب بفعلٍ مقدَّر أو نُوِّن ضرورةً؟ فاختار الخليلُ إضمارَ الفعلِ، واختار يونس التنوين للضرورة"، وقدَّره بعضهم بعد "لمَّا" مِنْ لفظ "ليُوَفِّينَّهم" والتقدير: وإن كلاً إلا ليوفِّيَنَّ ليوفِّينَّهم. وفي هذا التقدير بُعْدٌ كبيرٌ أو امتناع؛ لأنَّ ما بعد "إلا" لا يعمل فيما قبلها. واستدلَّ أصحابُ هذا القول ـ أعني مجيء "لَمَّا" بمعنى "إلا" ـ بنص الخليل وسيبويه على ذلك، ونصره الزجاج، قال بعضهم: "وهي لغة هُذَيْل يقولون: سألتك باللَّه لمَّا فعلت أي: إلا فعلت". وقد أنكر الفراء وأبو عبيد ورودَ "لمَّا" بمعنى إلا، قال: أبو عبيد: "أمَّا مَنْ شدَّد "لمَّا" بتأويل "إلا" فلم نجدْ هذا في كلامِ العرب، ومَنْ قال هذا لزمه أن يقولَ: "قام القوم لمَّا أخاك" يريد: إلا أخاك، وهذا غيرُ موجودٍ". وقال الفراء: "وأمَّا مَنْ جَعَلَ "لَمَّا" بمنزلة "إلا" فهو وجهٌ لا نعرفه، وقد قالت العربُ في اليمن: "باللَّه لمَّا قمت عنا"، و "إلا قمت عنا"، فأمَّا في الاستثناء فلم نَقُلْه في شعر ولا في غيره، ألا ترى أن ذلك لو جاز لسمعْتَ في الكلام: ذهب الناس لمَّا زيداً".
فأبو عبيد أنكر مجيء "لمَّا" بمعنى "إلا" مطلقاً، والفراء جَوَّز ذلك في القسم خاصةً، وتبعه الفارسي في ذلك فإنه قال في تشديد "لمَّا" في هذه الآية: "لا يصلح أن تكون بمعنى "إلا"؛ لأن "لَمَّا" هذه لا تفارق القسم" وردَّ الناس قوله بما حكاه الخليل وسيبويه، وبأنها لغة هُذَيْل مطلقاً، وفيه نظرٌ، فإنهم لمَّا حَكَوا اللغة الهذيلية حَكَوْها في القسم كما تقدم مِنْ نحو: "نَشَدْتُك باللَّه لمَّا فعلت" و "أسألك باللَّه لمَّا فعلت". وقال أبو علي أيضاً مستشكلاً لتشديد "لمَّا" في هذه السورة على تقدير أن "لمَّا" بمعنى "إلا" لا تختص بالقسم ما معناه: أن تشديد "لمَّا" ضعيف سواء شددت "إن" أم خَفَّفْت، قال: "لأنه قد نُصِب بها "كلاً"، وإذا نُصب بالمخففة كانت بمنزلة المثقلة، وكما لا يَحْسُن: "إنَّ زيداً إلا منطلق"، لأن الإِيجابَ بعد نفي، ولم يتقدَّمْ هنا إلا إيجابٌ مؤكد، فلذا لا يَحْسُن: إن زيداً لَمَّا مُنْطلق" لأنه بمعناه، وإنما ساغ: "نَشَدْتُك اللَّهَ إلا فعلت ولمَّا فعلت" لأنَّ معناه الطلب، فكأنه قال: ما أطلب منك إلا فِعْلك، فحرفُ النفي مرادٌ مثل:
{ تَالله تَفْتَؤُاْ } [يوسف: 85]، ومَثَّل ذلك أيضاً بقولهم: "شَرٌ أهرُّ ذاناب" أي: ما أهرَّه إلا شرٌّ، قال: "وليس في الآية معنى النفي ولا الطلبِ. وقال الكسائي: "لا أعرف وجه التثقيل في لمَّا". قال الفارسي: "ولم يُبْعِدْ فيما قال". ورُوي عن الكسائي أيضاً أنه قال: "اللَّه عَزَّ وجَلَّ أعلمُ بهذه القراءة، لا أعرف لها وجهاً".
الثامن: قال الزجاج: "قال بعضهم قولاً ولا يجوزُ غيرُه: "إنَّ "لمَّا" في معنى إلا، مثل
{ إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ } [الطارق: 4] ثم أَتْبَع ذلك بكلام طويل مشكل حاصِلُه يَرْجِع إلى أن معنىٰ "إنْ زيدٌ لمنطلق": ما زيد إلا منطلق، فَأَجْرَيْتَ المشددة كذلك في هذا المعنىٰ إذا كانت اللام في خبرها، وعملُها النصبَ في اسمها باقٍ بحاله مشددةً ومخففةً، والمعنىٰ نفيٌ بـ"إنْ" وإثباتٌ باللام التي بمعنى إلا، ولَمَّا بمعنى إلا". قلت: قد تقدَّم إنكارُ أبي علي على جوازِ "إلا" في مثلِ هذا التركيب فكيف يجوز "لمَّا" التي بمعناها؟
وأمَّا قراءةُ ابنِ عامر وحمزة وحفص ففيها وجوه، أحدها: أنها "إنَّ" المشددةَ على حالها، فلذلك نُصب ما بعدها على أنه اسمُها،وأمَّا "لمَّا" فالكلامُ فيها كما تقدم مِنْ أنَّ الأصلَ "لَمِنْ ما" بالكسر أو "لَمَنْ ما" بالفتح، وجميعُ تلك الأوجهِ التي ذكرْتُها تعودُ ههنا. والقولُ بكونها بمعنى "إلا" مُشْكِلٌ كما تقدَّم تحريرُه عن أبي علي هنا.
الثاني: قال المازنيٌّ: "إنَّ" هي المخففة ثُقِّلَتْ، وهي نافيةٌ بمعنىٰ "ما" كما خُفِّفَتْ "إنَّ" ومعناها المثقلة و "لَمَّا" بمعنى "إلا". وهذا قولٌ ساقطٌ جداً لا اعتبارَ به، لأنه لم يُعْهَدْ تثقيلُ "إنْ" النافية، وأيضاً فـ"كلاً" بعدها منصوبٌ، والنافيةُ لا/ تَنْصِبُ.
الوجه الثالث: أنَّ "لَمَّا" هنا هي الجازمة للمضارع حُذِف مجزومُها لفهم المعنىٰ. قال الشيخ أبو عمرو ابن الحاجب في أماليه: "لمَّا" هذه هي الجازمةُ فحُذِف فِعْلُها للدلالةِ عليه، لِما ثبت من جواز حَذْفِ فِعْلِها في قولهم: "خَرَجْتُ ولمَّا" و "سافرتُ ولمَّا" و هو شائعٌ فصيح، ويكون المعنىٰ: وإنَّ كلاً لمَّا يُهْمَلوا أو يُتْرَكوا لِما تقدَّم من الدلالةِ عليه مِنْ تفصيل المجموعين بقوله
{ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } [هود: 105]، ثم فَصَّل الأشقياءَ والسعداء، ومجازاتَهم، ثم بَيَّن ذلك بقولِه { لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ }، قال: "وما أعرفُ وجهاً أشبهَ مِنْ هذا، وإن كانت النفوسُ تستبعده مِنْ جهةِ أن مثلَه لم يَرِدْ في القرآن"، قال: "والتحقيقُ يأبىٰ استعبادَه". قلت: وقد نَصَّ النحويون على أن "لمَّا" يُحذف مجزومُها باطِّراد، قالوا: لأنها لنفيِ قد فَعَلَ، وقد يُحذف بعدها الفعل كقوله:

2725 ـ أَفِدُ الترحل غيرَ أن رِكابَنا لَمَّا تَزُل برحالِنا وكأنْ قَدِ

أي: وكأن قد زالت، فكذلك مَنْفِيُّه، وممَّن نَصَّ عليه الزمخشري، عَلى حَذْفِ مجزومها، وأنشد يعقوب على ذلك في كتاب "معاني الشعر" له قولَ الشاعر:

2726 ـ فجِئْتُ قبوَرُمْ بَدْءاً ولمَّا فنادَيْتُ القبورَ فلم يُجِبْنَهْ

قال: "قوله "بدءاً"، أي: سيداً، وبَدْءُ القوم سيِّدهم، وبَدْءُ الجَزْور خيرُ أَنْصِبائها، قال: "وقوله "ولما"، أي: ولما أكنْ سَيِّداً إلا حينَ ماتوا فإني سُدت بعدهم، كقول الآخر:

2727 ـ خَلَتِ الدِّيارُ فسُدْتُ غيرَ مُسَوَّدِ ومن العَناءِ تَفُّردي السُّؤْدُدِ

قال: "ونظيرُ السكوتِ على "لمَّا" دونَ فعلها السكوتُ على "قد" دونَ فعلِها في قول النابغة: أَفِدَ الترحُّل: البيت". قلت: وهذا الوجهُ لا خصوصيةً له بهذه القراءة، بل يجيءُ في قراءة مَنْ شدَّد "لمَّا" سواءً شدَّد "إن" أو خفَّفها.
وأمَّا قراءةُ أبي عمرو والكسائي فواضحةٌ جداً، فإنها "إنَّ" المشددة عَمِلَتْ عملها، واللام الأولى لام الابتداء الداخلة على خبر "إنَّ"، والثانية جواب قسم محذوف، أي: وإنَّ كلاً للذين واللَّهِ ليوفِّينَّهم، وقد تقدَّم وقوعُ "ما" على العقلاء مقرَّراً، ونظيرُ هذه الآيةِ قولُه تعالىٰ:
{ وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ } [النساء: 72] غير أنَّ اللامَ في "لمَنْ" داخلة على الاسم، وفي "لمَّا" داخلة على الخبر. وقال بعضهم: "ما" هذه زائدة زِيْدت للفصل بين اللامَيْن: لامِ التوكيد ولامِ القسم. وقيل: اللام في "لَمَا" موطئةٌ للقسم مثلَ اللامِ في قوله تعالى: { وَلَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [الزمر: 65]، والمعنىٰ: وإنَّ جميعهم واللَّه ليوفِّينَّهم ربُّك أعمالَهم مِنْ حُسْنٍ وقُبْحٍ وإيمانٍ وجُحود.
وقال الفراء عند ذكره هذه القراءة: "جَعَل "ما" اسماً للناس كما جاز
{ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ } [النساء: 3]، ثم جَعَلَ اللامَ التي فيها جواباً لإِنَّ، وجعل اللامَ التي في "ليوفِّيَنَّهم" لاماً دَخَلَتْ على نيةِ يمينٍ فيما بين "ما" وصلتِها كما تقول: "هذا مَنْ لَيَذْهَبَنَّ"، و "عندي ما لَغَيْرُه خيرٌ منه" ومثلُه: { وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ } [النساء: 72]. ثم قال بعد ذلك ما يدلُّ على أن اللامَ مكررةٌ فقال: "إذا عَجَّلَت العربُ باللام في غيرِ موضعِها أعادُوها إليه نحو: إنَّ زيداً لإِليك لمُحْسن، ومثله:

2728 - ولو أنَّ قومي لم يكونوا أعِزَّةً لبَعْدُ لَقَد لاقيتُ لا بُدَّ مَصْرَعا

قال: "أَدْخَلها في "بَعْد"، وليس بموضعِها، وسمعت أبا الجراح يقول: "إني لبحمد اللَّه لصالحٌ".
وقال الفارسي في توجيهِ هذه القراءة: "وجهُها بيِّن وهو أنه نَصَب "كلاً" بإِنَّ، وأدخل لامَ الابتداء في الخبر، وقد دَخَلَتْ في الخبر لامٌ أخرىٰ، وهي التي يُتَلقَّى بها القسم، وتختص بالدخول على الفعل، فلمَّا اجتمعت اللامان فُصِل بينهما كما فُصِل بين "إنَّ" واللامَ، فدخَلَتْها وإن كانَتْ زائدةً للفصل، ومثلُه في الكلام: "إن زيداً لَمَا لينطلقَنَّ".
فهذا ما تلخَّص لي من توجيهاتِ هذه القراءات الأربع، وقد طعن بعض الناس في بعضها بما لا تَحَقُّق له، فلا ينبغي أن يُلْتفت إلى كلامِه، قال المبرد: ـ وهي جرأةٌ منه ـ "هذا لحنٌ" يعني تشديدَ "لمَّا" قال: "لأن العرب لا تقول: "إن زيداً لَمَّا خارج". وهذا مردودٌ عليه. قال الشيخ: "وليس تركيبُ الآية كتركيبِ المثال الذي قال وهو: "إنَّ زيداً لَمَّا خارج"، هذا المثالُ لحنٌ"/.
قلت: إنْ عنىٰ أنه ليس مثلَه في التركيب من كل وجه فمُسَلَّم، ولكن ذلك لا يفيد فيما نحن بصددِه، وإن عنى أنه ليس مثلَه في كونه دخلت "لمَّا" المشددةُ على خبر إنَّ فليس كذلك بل هو مثلُه في ذلك، فتسليمُه اللحنَ في المثال المذكور ليس بصوابٍ، لأنه يَسْتلزم ما لا يجوز أن يقال.
وقال أبو جعفر: "القراءةُ بتشديدهما عند أكثر النحويين لحن، حُكِيَ عن محمد بن يزيد أنه قال: "إنَّ هذا لا يجوز، ولا يقال: "إنَّ زيداً إلا لأضربنَّه"، ولا "لَمَّا لأضربنَّه". قال: "وقال الكسائي: اللَّهُ عَزَّ وجلَّ أعلم، لا أعرف لهذه القراءة وجهاً" وقد تقدَّم ذلك، وتقدَّم أيضاً أن الفارسي قال: "كما لا يحسن: "إنَّ زيداً إلا لمنطلق"؛ لأنَّ "إلا" إيجاب بعد نفي، ولم يتقدم هنا إلا إيجابٌ مؤكَّد، فكذا لا يحسن "إنَّ زيداً لما منطلق"، لأنه بمعناه، وإنما ساغ "نَشَدْتُك باللَّه لمَّا فعلت" إلى آخر ما ذكرته عنه. وهذه كلُّها أقوالٌ مرغوبٌ عنها لأنها معارِضة للمتواترِ القطعي.
وأمَّا القراءات الشاذة فأوَّلُها قراءةُ أُبَيّ ومَنْ تبعه: { وَإِن كُلٌّ لَّمَّا } بتخفيف "إنْ" ورفع "كل" على أنها إنْ النافية و "كلٌّ" مبتدأ، و "لمَّا" مشددة بمعنى إلاَّ، و "لَيُوَفِّيَنَّهم" جوابُ قسمٍ محذوفٍ، وذلك القسمُ وجوابُه خبرُ المبتدأ. وهي قراءةٌ جليَّة واضحةٌ كما قرؤوا كلُّهم:
{ وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ } [يس: 32] ومثلُه: { وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ } [الزخرف: 35]، ولا التفاتَ إلى قولِ مَنْ نفىٰ أنَّ "لمَّا" بمنزلةِ إلاَّ فقد تقدَّمَتْ أدلتُه.
وأمَّا قراءةُ اليزيدي وابن أرقم "لَمَّاً" بالتشديد منونةً فـ"لمَّاً" فيها مصدرٌ مِنْ قولهم: "لَمَمْتُه ـ أي جمعته ـ لمَّاً"، ومنه قولُه تعالىٰ:
{ وَتَأْكُلُونَ ٱلتُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً } [الفجر: 19] ثم في تخريجه وجهان، أحدُهما ما قاله أبو الفتح، وهو أن يكونَ منصوباً بقوله: "ليوفينَّهم" على حَدِّ قولِهم: "قياماً لأقومَنَّ، وقعوداً لأقعدَنَّ" والتقدير: توفيةً جامعةً لأعمالهم ليوفِّيَنَّهم، يعني أنه منصوبٌ على المصدر الملاقي لعاملِه في المعنىٰ دون الاشتقاق.
والثاني: ما قاله أبو عليّ الفارسي وهو: أن يكونَ وصفاً لـ"كل" وصفاً بالمصدر مبالغةً، وعلى هذا فيجب أن يقدَّرَ المضافُ إليه "كل" نكرةً ليصحَّ وَصْفُ "كل" بالنكرة، إذ لو قُدِّر المضافُ معرفةً لتعرَّفَتْ "كل"، ولو تَعَرَّفَتْ لامتنع وَصْفُها بالنكرة فلذلك قُدِّر المضافُ إليه نكرةً، ونظيرُ ذلك قولُه تعالىٰ:
{ وَتَأْكُلُونَ ٱلتُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً } [الفجر: 19]، فوقع "لمَّا" نعتاً لـ"أكلاً" وهو نكرة.
قال أبو عليّ: "ولا يجوزُ أن يكونَ حالاً لأنه لا شيءَ في الكلامِ عاملٌ في الحال".
[وظاهر عبارة الزمخشري أنه تأكيدٌ تابعٌ لـ"كلاً" كما يتبعها أجمعون، أو أنه منصوبٌ على النعت لـ"كلاً"] فإنه قال: { وَإِنَّ كُـلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ } كقوله "أكلاً لمَّاً" ملمومين بمعنى مجموعين، كأنه قيل: وإنْ كلاً جميعاً، كقوله تعالىٰ:
{ فَسَجَدَ ٱلْمَلاۤئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } [الحجر: 30] انتهىٰ. لا يريد بذلك أنه تأكيدٌ صناعيٌّ، بل فَسَّر معنى ذلك، وأراد أنه صفةٌ لـ"كلاً"، ولذلك قَدَّره بمجموعين. وقد تقدَّم لك في بعضِ توجيهات "لَمَّا" بالتشديد من غير تنوين أن المنون أصلُها، وإنما أُجري الوصلُ مُجْرىٰ الوقف، وقد عُرِف ما فيه. وخبرُ "إنْ" على هذه القراءة هي جملة القسم المقدَّر وجوابه سواءً في ذلك تخريجُ أبي الفتح وتخريجُ شيخه.
وأمَّا قراءةُ الأعمش فواضحةٌ جداً وهي مفسرةٌ لقراءة الحسنِ المقتدمة، لولا ما فيها مِنْ مخالفة سواد الخط.
وأمَّا قراءةُ ما في مصحفِ أُبَي كما نقلها أبو حاتم فإنْ فيها نافية، و "مِنْ" زائدةٌ" في النفي، و "كل" مبتدأ، و "ليوفِّينَّهم" مع قَسَمه المقدَّر خبرُها، فَتَؤُول إلى قراءة الأعمش التي قبلها، إذ يصير التقديرُ بدون "مِنْ": { وإنْ كلٌ إلا ليوفِّينَّهم }.
والتنوين في "كلاً" عوضٌ من المضافِ إليه. قال الزمخشري: "يعني: وإنَّ كلَّهم، وإنَّ جميعَ المختلفين فيه". وقد تقدَّم أنه على قراءةِ "لَمَّاً" بالتنوين في تخريج أبي علي له لا يُقَدَّر المضافُ إليه "كل" إلا نكرةً لأجل نعتِها بالنكرة.
وانظر إلى ما تضمَّنَتْه هذه الآيةُ الكريمة من التأكيد، فمنها: التوكيد بـ"إنَّ" و بـ"كل" وبلام الابتداء الداخلة على خبر "إنَّ" وزيادةِ "ما" على رأيٍ، وبالقسمِ المقدر وباللامِ الواقعةِ جواباً له، وبنون التوكيد، وبكونها مشددةً، وإردافِها بالجملة التي بعدها من قوله { إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } فإنه يتضمَّن وعيداً شديداً للعاصي ووعداً صالحاً للطائع.
وقرأ/ العامَّةُ "يعملون" بياء الغيبة، جرياً على ما تقدَّم مِن المختلفين. وقرأ ابن هرمز "بما تعملون" بالخطاب فيجوز أن يكونَ التفاتاً من غَيْبة إلى خطاب، ويكون المخاطبون هم الغيب المتقدِّمون، ويجوز أن يكونَ التفاتاً إلى خطاب غيرهم.