التفاسير

< >
عرض

فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ ٱلْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْفَسَادِ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَٱتَّبَعَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ
١١٦
-هود

الدر المصون

قوله تعالى: { فَلَوْلاَ كَانَ }: "لولا" تحضيضيةٌ دخلها معنى التفجُّع عليهم، وهو قريبٌ مِنْ مجازِ قوله تعالى: { { يٰحَسْرَةً عَلَى ٱلْعِبَادِ } [يس: 30]. وما يُرْوَىٰ عن الخليل أنه قال: "كلُّ "لولا" في القرآن فمعناها "هَلاَّ" إلا التي في الصافَّات: { فَلَوْلاَ أَنَّهُ [كَانَ مِنَ ٱلْمُسَبِّحِينَ] } [الآية: 143]، لا يصح عنه لورودها كذلك في غير الصافات: { لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ } [القلم: 49] { { وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ } [الفتح: 25]، { { وَلَوْلاَ رِجَالٌ } } [الإسراء: 74].
و "مِن القُرون": يجوزُ أن يتعلق بـ"كان" لأنها هنا تامة، إذ المعنىٰ: فهلاَّ وُجِد من القرون، أو حَدَث، ونحو ذلك، ويجوز أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من "أُولو بَقِيَّة" لأنه لو تأخَّر عنه لجاز أن يكون نعتاً له. و "مِنْ قبلكم" حال من "القرون" و "يَنْهَوْن" حالٌ من "أولو بقية" لتخصُّصه بالإِضافة، ويجوز أن يكون نعتاً لـ"أُولوا بقية" وهو أَوْلىٰ.
ويَضْعُفُ أن تكونَ "كان" هذه ناقصةً لبُعد المعنىٰ مِنْ ذلك، وعلىٰ تقديرِه يتعيَّن تَعَلُّق "من القرون" بالمحذوف على أنه حالٌ، لأنَّ "كان" الناقصة لا تعمل عند جمهور النحاة، ويكون "يَنْهَوْن" في محل نصب خبراً لـ"كان".
وقرأ العامَّة: "بَقِيَّة" بفتح الباء وتشديد الياء، وفيها وجهان، أحدهما: أنها صفةٌ على فَعيلة للمبالغة بمعنى فاعل، ولذلك دخلت التاءُ فيها، والمرادُ بها حينئذٍ جُنْدُ الشيء وخياره، وإنما قيل لجنده وخياره "بقيَّة" في قولهم: "فلان بقيةُ الناس، وبقيةُ الكرام، لأن الرجلَ يَسْتَبْقي ممَّا يُخْرِجه أجودَه وأفضلَه، وعليه حُمل بيت الحماسة:

2730 ـ إنْ تُذْنِبُوا ثم تَأْتِيني بقيَّتُكم .........................

وفي المثل "في الزوايا خبايا، وفي الرجال بقايا".
والثاني: أنها مصدرٌ بمعنى البَقْوىٰ. قال الزمخشري: "ويجوز أن تكونَ البقيَّة بمعنى البَقْوىٰ، كالتقيَّة بمعنى التقوىٰ، أي: فهلا كان منهم ذوو إبقاءٍ على أنفسهم وصيانةٍ لها من سخط اللَّه وعقابه".
وقرأ فرقةٌ/ "بَقِيَة" بتخفيف الياء وهي اسمُ فاعلٍ مِنْ بقي كشَجِيَة مِنْ شَجِي، والتقدير: أولو طائفةٍ بَقِيةٍ أي: باقية. وقرأ أبو جعفر وشيبة "بُقْية" بضم الفاء وسكون العين. وقُرىء "بَقْيَة" على المَرَّة من المصدر. و "في الأرض" متعلقٌ بالفَساد، والمصدرُ المقترن بأل يعمل في المفاعيل الصريحة فكيف في الظروف؟ ويجوز أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حالٌ من "الفساد".
قوله: { إِلاَّ قَلِيلاً } فيه وجهان، أحدهما؛ أن يكون استثناءً منقطعاً، وذلك أن يُحمل التحضيضُ على حقيقته، وإذا حُمل على حقيقته تعيَّن أن يكونَ الاستثناء منقطعاً لئلا يفسُدَ المعنىٰ. قال الزمشخري: "معناه: ولكن قليلاً ممَّن أَنْجَيْنا مِن القرون نُهوا عن الفساد، وسائرُهم تاركوا النهي". ثم قال. "فإن قُلْتَ: هل لوقوع هذا الاستثناء متصلاً وجهٌ يُحْمَلُ عليه؟ قلت: إن جَعَلْتَه متصلاً على ما عليه ظاهرُ الكلام كان المعنىٰ فاسداً؛ لأنه يكون تحضيضاً لأولي البقية على النهي عن الفساد إلا للقليل من الناجين منهم، كما تقول: هلا قرأ قومُك القرآن إلا الصلحاءَ منهم، تريد استثناء الصلحاء من المُحَضَّضين على قراءة القرآن". قلت: لأن الكلام يَؤُول إلى أنَّ الناجين لم يُحَضُّوا على النهي عن الفساد، وهو معنىً فاسدٌ.
والثاني: أن يكونَ متصلاً، وذلك بأن يُؤَوَّل التحضيضُ بمعنى النفي فيصحَّ ذلك، إلا أنه يؤدِّي إلى النصب في غير الموجَب، وإن كان غيرُ النصب أَوْلىٰ. قال الزمخشري: "فإن قلت: في تحضيضهم على النهي عن الفسادِ معنىٰ نَفْيه عنهم فكأنه قيل: ما كان من القرونِ أولو بقيةٍ إلا قليلاً كان استثناءٌ متصلاً ومعنى صحيحاً، وكان انتصابُه على أصلِ الاستثناء، وإن كان الأفصحُ أن يُرْفعَ على البدل" قلت: ويؤيد أن التحضيض هنا في معنى النفي قراءةُ زيد بن علي "إلا قليلٌ" بالرفع، لاحظ معنى النفي فأبدل على الأفصح، كقولِه:
{ مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ } [النساء: 66]. وقال الفراء: "المعنىٰ: فلم يكن، لأن في الاستفهام ضرباً من الجَحْد" سَمَّى التحضيض استفهاماً. ونُقِل عن الأخفش أنه كان يرى تعيُّنَ اتصال هذا الاستثناء، كأنه لَحَظَ النفيَ.
و "مِن" في "مِمَّنْ أَنْجَيْنا" للتبعيض. ومنع الزمخشري أن تكونَ للتبعيض، بل للبيان فقال: "حقُّها أن تكون للبيان لا للتبعيض؛ لأن النجاة إنما هي للناهين وحدهم، بدليل قوله عز وجل:
{ أَنجَيْنَا ٱلَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ ٱلسُوۤءِ وَأَخَذْنَا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } [الأعراف: 165]. قلت: فعلىٰ الأول يتعلَّق بمحذوفٍ على أنها صفةٌ لـ"قليلاً"، وعلى الثاني: يتعلَّق بمحذوف على سبيل البيان، أي: أعني.
قوله: { وَٱتَّبَعَ } العامَّةُ على "أتَّبع" بهمزة وصل وتاءٍ مشددة، وباء، مفتوحتين، فعلاً ماضياً مبنياً للفاعل، وفيه وجهان، أحدهما: أنه معطوفٌ على مضمر، والثاني: أن الواوَ للحال لا للعطف، ويتضح ذلك بقول الزمخشري: "فإن قلت: علامَ عَطَف قوله: { وَٱتَّبَعَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } قلت: إنْ كان معناه: "واتَّبعوا الشهواتِ كان معطوفاً على مضمرٍ؛ لأن المعنىٰ: إلا قليلاً مِمَّن أنجينا منهم نُهُوا عن الفساد، واتَّبع الذين ظلموا شَهواتِهم، فهو عطفٌ على "نُهوا" وإن كان معناه: واتَّبعوا جزاء الإِتراف، فالواو للحال، كأنه قيل: أَنْجَيْنا القليل، وقد اتَّبَعَ الذين ظَلَموا جزاءهم".
قلت: فجوَّز في قولِه: "ما أُتْرفوا" وجهين أحدُهما: أنه مفعولٌ مِنْ غيرِ حذفِ مضاف، و "ما" واقعة على الشهوات وما بَطِروا بسببه من النِّعَم، والثاني: أنه على حَذْفِ مضاف، أي: جزاء ما أترفوا، ورتَّب على هذين الوجهين القولَ في "واتَّبع" كما عرفت.
والإِتراف: إفعالٌ من التَّرف وهو النعمة يُقال: صبيٌّ مُتْرَفٌ، أي: مُنْعَم البدن، وأُتْرفوا: نَعِموا. وقيل: التُّرْفة: التوسُّع في النِّعْمة.
وقرأ أبو عمرو في روايةِ الجعفي وجعفر "وأُتبع" بضم همزة القطعِ وسكونِ التاء وكسر الباء مبنياً للمفعول، ولا بد حينئذٍ مِنْ حَذْفِ مضاف، أي: أُتْبِعوا جزاء ما أُتْرفوا فيه. و "ما" يجوز أن تكونَ بمعنى الذي، وهو الظاهرُ لعَوْد الضمير في "فيه" عليه، ويجوز أن تكونَ مصدريةً، أي: جزاءَ إترافهم.
قوله: { وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ } فيه ثلاثةُ أوجه، أحدها: أن تكونَ عطفاً على "أُتْرِفُوا" إذا جعلنا "ما" مصدريةً، أي: اتَّبَعوا إترافهم وكونَهم مجرمين. والثاني: أنه عطفٌ على "اتَّبع"، أي: اتَّبعوا شهواتِهم وكانوا مجرمين بذلك؛ لأنَّ/ تابع الشهوات مغمورٌ بالآثام. الثالث: أن يكونَ اعتراضاً وحكماً عليهم بأنهم قومٌ مجرمون، ذكر ذلك الزمخشريُّ. قال الشيخ: "ولا يُسَمَّى هذا اعتراضاً في اصطلاح النحو؛ لأنه آخرُ آيةٍ فليس بين شيئين يحتاج أحدُهما إلى الآخرِ".