التفاسير

< >
عرض

وَجَآءُوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَٱللَّهُ ٱلْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ
١٨
-يوسف

الدر المصون

قوله تعالى: { عَلَىٰ قَمِيصِهِ }: في محل نصبٍ على الحال من "الدم". قال أبو البقاء: "لأنَّ التقدير: جاؤوا بدمٍ كذبٍ على قميصه"، يعني أنه لو تأخَّر لكان صفةً للنكرة. وهذا الوجهُ قد ردَّه الزمخشري فقال: "فإن قلت: هل يجوز أن تكون حالاً متقدمة؟ قلت: لا، لأنَّ حال المجرور لا تتقدَّم عليه". وهذا الذي رَدَّ به الزمخشريُّ أحدُ قولَي النحاة، وقد صحَّح جماعةٌ جوازَه وأنشدوا:

2754 ـ ................... فَلَنْ يذهبوا فَرْغاً بقَتْلِ حِبال

وقولَ الآخر:

2755 ـ لَئِنْ كان بَرْدُ الماءِ هَيْمانَ صادِياً إليَّ حبيباً إنَّها لحبيبُ

وقول الآخر:

2756 ـ غافلاً تَعْرِضُ المنيَّةُ لِلْمَرْ ءِ فيُدْعَىٰ ولاتَ حينَ إباءُ

وقال الحوفي: "إنَّ "على قميصه" متعلقٌ بـ"جاؤوا"، وفيه نظر؛ لأن مجيئَهم لا يصحُّ أن يكونَ على القميص.
وقال الزمخشري: "فإن قلتَ "على قميصه" ما محلُّه؟ قلت: محلُّه النصبُ على الظرف، كأنه قيل: وجاؤوا فوق قميصه بدم، كما تقول: جاء على جِماله بأَحْمال". قال الشيخ: "ولا يساعد المعنىٰ على نصب "على" على الظرف بمعنى فوق، لأنَّ العامل فيه إذ ذاك "جاؤوا"، وليس الفوقُ ظرفاً لهم، بل يستحيل أن يكونَ ظرفاً لهم". وهذا الردُّ هو الذي رَدَدْت به على الحوفي قولَه إنَّ "على" متعلقةٌ بـ"جاؤوا". ثم قال الشيخ: "وأمَّا المثال الذي ذكره الزمخشري وهو "جاء على جِماله بأَحْمال" فيمكن أن يكونَ ظرفاً للجائي لأنه تمكَّن الظرف فيه باعتبار تبدُّلِه مِنْ جملٍ إلى جمل، وتكون "بأَحْمال" في موضع الحال، أي: مضموماً بأحمال".
وقرأ العامَّةُ: "كَذِب" بالذال المعجمة، وهو من الوصف بالمصادر فيمكن أن يكونَ على سبيل المبالغة نحو: رجلٌ عَدْلٌ أو على حَذْفِ مضافٍ، أي: ذي كذب، نَسَبَ فِعْلَ فاعله إليه. وقرأ زيد بن علي "كَذِباً" فاحتمل أن يكون مفعولاً من أجله واحتمل أن يكونَ مصدراً في موضع الحال، وهو قليلٌ أعني مجيءَ الحالِ من النكرة.
وقرأ عائشة والحسن: "كَدِب" بالدال المهملة. وقال صاحبُ اللوامح: "معناه: ذي كَدِب، أي: أثر؛ لأنَّ الكَدِبَ هو بياضٌ يَخْرُجُ في أظافير الشباب ويؤثِّر فيها، فهو كالنقش، ويُسَمَّىٰ ذلك البياضُ "الفُوْف" فيكون هذا استعارةً لتأثيره في القميص كتأثير ذلك في الأظافير". وقيل: هو الدمُ الكَدِر. وقيل: الطريُّ. وقيل: اليابس.
قوله: { بَلْ سَوَّلَتْ } قبل هذه الجملةِ جملةٌ محذوفة تقديره: لم يأكلْه الذئب، بل سَوَّلَتْ. وسوَّلت، أي: زيَّنَتْ وسَهَّلَتْ.
قوله: { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } يجوز أن يكونَ مبتدأً وخبره محذوفٌ، أي: صبر جميل أَمْثَلُ بي. ويجوز أن يكون خبراً محذوفَ المبتدأ، أي: أمري صبرٌ جميل. وهل يجب حَذْفُ مبتدأ هذا الخبر/ أو خبر هذا المبتدأ؟ وضابطُه أن يكونَ مصدراً في الأصل بدلاً مِن اللفظ بفعله، وعبارة بعضِهم تقتضي الوجوبَ، وعبارة آخرين الجواز. ومن التصريح بخبر هذا النوعِ. ولكنه في ضرورة شعر قولُه:

2757 ـ فقالَتْ على اسمِ اللَّهِ أَمْرُك طاعةٌ وإن كنتُ قد كُلِّفْتُ ما لم أُعَوَّدِ

وقولُ الشاعر:

2758 ـ يَشْكو إليَّ جَمَلي طولَ السُّرى صَبْرٌ جميلٌ فكِلانا مُبْتَلَىٰ

يحتمل أن يكونَ مبتدأً أو خبراً كما تقدَّم.
وقرأ أُبَيّ وعيسى بن عمر: "فصبراً جميلاً" [نصباً، ورُويت عن الكسائي، وكذلك هي في] مصحف أنس بن مالك، وتخريجها على المصدر الخبري، أي: أصبرُ أنا صبراً، وهذه قراءة ضعيفة إن خُرِّجَتْ هذا التخريجَ، فإن سيبويه لا ينقاس ذلك عنده إلا في الطلب، فالأَوْلى أن يُجعل التقدير: إنَّ يعقوب رَجَعَ وأَمَر نفسَه فكأنه قال: اصبري يا نفسُ صبراً. ورُوري البيتُ أيضاً بالرفع والنصب على ما تقدَّم، والأمر فيه ظاهر.