التفاسير

< >
عرض

رُّبَمَا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ
٢
-الحجر

الدر المصون

قوله تعالى: { رُّبَمَا } { رُبَ }: فيها قولان، أحدُهما: أنها حرفُ جرٍّ، وزعم الكوفيون وأبو الحسن وابن الطَّراوة أنها اسم. ومعناها التقليلُ على المشهور. وقيل: تفيد التكثير. وقيل: تفيد التكثير في مواضعِ الافتخار كقوله:

29220- فيا رُبَّ يومٍ قد لَهَوْتُ وليلةٍ بآنسةٍ كأنها خطُّ تِمْثالِ

وقد أُجيب عن ذلك: بأنها لتقليل النظير. ودلائلُ هذه الأقوال في النحو. وفيها لغاتٌ كثيرةٌ أشهرها: "رُبَ" بالضم والتشديد، أو التخفيف، وبالثانية قرأ نافع وعاصم. و "رَبَ" بالفتح مع/ التشديد والتخفيف، ورُبْ ورَبْ بالضم والفتح مع السكون فيهما. وتتصل تاءُ التأنيث بكلِّ ذلك، وبالتاء قرأ طلحةُ بن مصرف وزيدُ بن علي: رُبَّتَما. وإذا اتصلت بها التاء جاز فيها الإِسكانُ والفتح كثُمَّت ولات، فتكثر الألفاظ، ولها أحكامٌ كثيرةٌ منها: لزومُ تصديرِها، ومنها تنكيرُ مجرورِها وقوله:

2923- رُبَّما الجامِلِ المُؤَبَّلِ فيهمُ وعَنَاجيجُ بينهنَّ المهَارى

ضرورةٌ في رواية مَنْ جَرًّ "الجامِل". وتَجُرُّ ضميراً لازمَ التفسير بنكرةٍ بعده، يُستغنى بتثيِتها وجمعِها وتانيثِها عن تثنية الضمير وجمعِه وتأنيثِه كقولِه"

2924- ............................ ورُبَّه عَطِباً أَنْقَذْتُ مِنْ عَطَبِهْ

والمطابقةُ نحو: :رُبَّهما رجلين" نادرةٌ. وقد يُعطف على مجرورِها ما أُضيف إلى ضميرِه نحو: "رُبَّ رجلٍ وأخيه". وها يلزم وَصْفُ مجرورِها، ومُضِيُّ ما يتعلَّق به؟ خلاف، والصحيحُ عدمُ ذلك. فمِنْ مجيئه غيرَ موصوفٍ قولُ هندٍ:

2925- يا رُبَّ قائلةٍ غداً يا لهفَ أمِّ مُعاويهْ

ومن مجيء المستقبلِ قولُه:

2926- فإنْ أَهْلَِكْ فربَّ فتىً سيبكيْ عليَّ مهذَّبٍ رَخْصِ البَنانِ

وقولُها: "يا رُبَّ قائلةٍ غداً" البيت، وقول سليم:

2927- ومعتصمٍ بالحيِّ من خشية الرَّدى سيُرْدى وغازٍ مُشْفِقٍ سَيَؤُوب

فإنَّ حرف التنفيس و"غداً" خَلَّصاه للاستقبالِ.
و"ما" في "رُبما" تحتمل وجهين، أظهرُهما: أنها المهيِّئَةُ، بمعنى: أن "رُبَّ" مختصةٌ بالأسماء، فلمَّا جاءت "ما" هَيَّأت دخولَها على الأفعال. وقد تقدَّم نظيرُ ذلك في "إنَّ" وأخواتها، وتَكُفُّها أيضاً عن العمل كقولِه:

2928- رُبَّما الجامِلُ المُؤَبَّلُ ......... ..........................

في روايةِ مَنْ رَفَعه، كما جَرَى ذلك في كاف التشبيه. والثاني: أنَّ "ما" نكرةٌ موصوفةٌ بالجملةِ الواقعة بعدها، والعائدُ على "ما" محذوفٌ، تقديره: رُبَّ شيءٍ يَوَدُّه الذين كفروا.
وقوله: { يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } مَنْ لم يلتزمْ مُضِيَّ متعلِّقِها لم يَحْتَجْ إلى تأويلٍ، ومَنْ التَزَم ذلك قال: لأن المُتَرَقَّب في أخبار الله تعالى واقعٌ لا محالةَ، فعبَّر عنه بالماضي تحقيقاً لوقوعِه، كقوله:
{ { أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ } [النحل: 1] ونحوِه.
قوله: { لَوْ كَانُواْ } يجوز في "لو" أن تكونَ الامتناعيةَ، وحينئذٍ يكون جوابُها محذوفاً. تقديره: لو كانوا مسلمين لسُرُّوا بذلك، أو لَخَلصوا ممَّا هم فيه. ومفعولُ "يَوَدُّ" محذوفٌ على هذا التقديرِ: أي: رُبَّما يودُّ الذين كفروا النجاةَ، دَلَّ عليه الجملةُ الامتناعية.
والثاني: أنها مصدرية عند مَنْ يرى ذلك كما تقدَّم تقريرُه في البقرة. وحينئذٍ يكون هذا المصدرُ هو المفعولَ للوَدادة، أي: يَوَدُّون كونَهم مسلمين، إنْ جعلنا "ما" كافةً، وإنْ جعلناها نكرةً كانت "لو" وما في حَيِّزِها بدلاً مِنْ "ما".