التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ
١١
-البقرة

الدر المصون

قوله تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ }: الآية. "إذا" ظرفُ زمنٍ مستقبل ويلزمُها معنى الشرطِ غالباً، ولا تكونُ إلا في الأمرِ المحقق أو المرجَّحِ وقوعُه فلذلك لم تَجْزم إلا في شعر لمخالفتِها أدواتِ الشَرط، فإنها للأمر المحتمل، ومن الجزم قولُه:

182ـ تَرفعُ لي خِنْدِفٌ واللهُ يَرْفَعُ لي ناراً إذا خَمَدَتْ نيرانُهم تَقِدِ

وقال آخر:

183ـ واستَغْنِ ما أغناك ربُّك بالغِنى تُصِبْكَ خَصَاصةٌ فَتَجَمَّلِ

وقول الآخر:

184ـ إذا قَصُرَتْ أسيافُنا كان وصلُها خُطانا إلى أعدائِنا فَنُضَارِبِ

فقوله: "فَنُضَارِبِ" مجزومٌ لعطفِه على محلِّ قولِه "كان وصلُها". وقال الفرزدق:

185ـ فقام أبو ليلى إليه ابنُ ظَالمٍ وكان إذا ما يَسْلُلِ السيفَ يَضْرِبِ

وقد تكونُ للزمنِ الماضي كـ "إذ"، كما قد تكون إذْ للمستقبل كـ "إذا"، وتكون للمفاجأة أيضاً، وهل هي حينئذٍ باقيةٌ على زمانيتها أو صارَتْ/ ظرفَ مكانٍ أو حرفاً؟ ثلاثةُ أقوال، أصحُّها الأولُ استصحاباً للحالِ، وهل تتصرَّف أم لا؟ الظاهرُ عدمُ تَصَرُّفِها، واستدلَّ مَنْ زعم تصرُّفها بقولِه تعالى في قراءة مَنْ قرأ: { { إِذَا وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةً رَّافِعَةً إِذَا رُجَّتِ ٱلأَرْضُ رَجّاً } [الواقعة: 1-4] بنصب { خَافِضَةً رَّافِعَةً }، فَجَعَلَ "إذا" الأولى مبتدأ والثانيةَ خبرَها، التقديرُ: وَقْتُ وقوعِ الواقعة وقتُ رَجِّ الأرض، وبقوله: { { حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوهَا } [الزمر: 71] { { حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ } [يونس: 22]، فجعلَ "حتى" حرفَ جر و "إذا" مجرورةً بها، وسيأتي تحقيقُ ذلك في مواضِعِه. ولا تُضافُ إلا إلى الجملِ الفعليةِ خلافاً للأخفش.
وقولُه تعالى: "قيل" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمفعولِ، وأصلُه: قُولَ كضُرِبَ فاستُثْقِلت الكسرةُ على الواو، فَنُقِلَت إلى القافِ بعد سَلْبِ حركتِها، فَسَكَنَتَ الواوُ بعد كسرةٍ فقُلِبت ياءً، وهذه أفصحُ اللغاتِ، وفيه لغةٌ ثانية وهي الإِشمامُ، والإِشمامُ عبارةٌ عن جَعْلِ الضمةِ بين الضمِ والكسرِ، ولغةٌ ثالثةٌ وهي إخلاصُ الضم، نحو: قُوْلَ وبُوعَ، قال الشاعر:

186ـ ليت وهل يَنْفَع شيئاً ليتُ ليت شباباً بُوْعَ فاشتريْتُ

وقال آخر:

187ـ حُوكَتْ على نِيْرَيْنِ إذ تُحاكُ تَخْتَبِطَ الشَّوْكَ ولا تُشَاكُ

وقال الأخفش: "ويجوزُ "قُيْل" بضم القافِ والياءُ" يعني مع الياء لا أنَّ الياءَ تضمُّ أيضاً. وتجيءُ هذه اللغاتُ الثلاثُ في اختار وانقاد ورَدَّ وحَبَّ ونحوها، فتقول: اختير بالكسرِ والإِشمامِ واختُور، وكذلك انقيد وانقُود ورُدَّ ورِدَّ، وأنشدوا:

188ـ وما حِلَّ مِنْ جَهْلٍ حُبا حُلَمائِنا ولا قائِلُ المعروفِ فينا يُعنَّفُ

بكسر حاء "حِلَّ" وقرئ: "ولو رِدُّوا" بكسر الراء، والقاعدةُ فيما لم يُسَمَّ فاعلُه أن يُضَمَّ أولُ الفعلِ مطلقاً، فإن كان ماضياً كُسِر ما قبلَ آخرهِ لفظاً نحو: ضُرِب أو تقديراً نحو: قِيلَ واخْتِير، وإن كان مضارعاً فُتح لفظاً نحو يُضْرَبُ أو تقديراً نحو: يُقال ويُختار، وقد يُضَمُّ ثاني الماضي أيضاً إذا افتُتح بتاءِ مطاوعةٍ نحو تُدُحْرج الحجرُ، وثالثهُ إن افتُتح بهمزةِ وصل نحو: انطُلِق بزيدٍ.
واعلم أن شرطَ جوازِ اللغاتِ الثلاث في قيل وغيض ونحوِهما أَلاَّ يُلْبِسَ، فإن أَلْبس عُمِل بمقتضى عَدمِ اللَّبْس، هكذا قال بعضُهم، وإن كان سيبويه قد أطلقَ جوازَ ذلك، وأشمَّ الكسائي: { قيل } [البقرة: 11]، { وغيض } [هود: 44] { وجيء } [الزمر: 69]، { وحيل بينهم } [سبأ: 54]، { وسيق الذين } [الزمر: 71]، { وسيىء بهم } [هود: 77]، { وسيئت وجوهُ } [الملك: 27]، وافقه هشام في الجميع، وابنُ ذكوان في "حيل" وما بعدها، ونافع في "سيئ" و "سيئَتْ" والباقون بإخلاصِ الكسرِ في الجميع. والإِشمامُ له معانٍ أربعةٌ في اصطلاح القرَّاء سيأتي ذلكَ في "يوسف" إن شاء الله تعالى عند
{ { مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا } [يوسف: 11] فإنه أليقُ به.
و "لهم" جارٌّ ومجرور متعلِّق بقيل، واللامُ للتبليغ، و "لا" حرفُ نهي تَجْزِمُ فعلاً واحداً، "تُفْسِدوا" مجزومٌ بها، علامةُ جَزْمِه حذفُ النون لأنه من الأمثلةِ الخمسةِ، و "في الأرضِ" متعلّقٌ به، والقائمُ مقامَ الفاعل هو الجملةُ من قوله "لا تُفْسِدوا" لأنه هو المقولُ في المعنى، واختاره أبو القاسم الزمخشري، والتقديرُ: وإذا قيل لهم هذا الكلامُ أو هذا اللفظُ، فهو من باب الإِسنادِ اللفظي. وقيل: القائمُ مقام الفاعلِ مضمرٌ تقديرُه: وإذا قيل لهم [قولٌ] هو، ويُفَسِّر هذا المضمَر سياقُ الكلامِ كما فسَّره في قولِه:
{ { حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِٱلْحِجَابِ } [ص: 32] والمعنى: "وإذا قيل لهم قولٌ سَديدٌ" فَأُضْمِر هذا القولُ الموصوفُ، وجاءَتِ الجملةُ بعده مفسرةً فلا موضعَ لها من الإِعراب، قال: "فإذا أَمْكَنَ الإِسنادُ المعنويُّ لم يُعْدَل إلى اللفظي، وقد أمكن ذلك بما تقدَّم" وهذا القولُ سبقه إليه أبو البقاء فإنه قال: "والمفعولُ القائمُ مقامَ الفاعل مصدرٌ وهو القولُ وأُضْمر لأنَّ الجملة بعد تفسِّره، ولا يجوزُ أن يكونَ "لا تُفْسِدوا" قائماً مقامَ الفاعلِ لأنَّ الجملة لا تكون فاعلةً فلا تقومُ مقامَ الفاعل". انتهى. وقد تقدَّم جوابُ ذلك مِنْ أنَّ المعنى: وإذا قيل لهم هذا اللفظُ، ولا يجوزُ أن يكونَ "لهم" قائماً مقامَ الفاعلِ إلا في رأي الكوفيين والأخفشِ، إذ يجوزُ عندهم إقامةُ غيرِ المفعولِ به مع وجودِه. وتلخَّص مِنْ هذا أنَّ جملةَ قولِه: "لا تُفْسدوا" في محلِّ رفعٍ على قولِ الزمخشري، ولا محلَّ لها على قول أبي البقاء ومَنْ تبعه. والجملةُ من قوله: "قيل" وما في حيِّزِه في محلِّ خَفْض بإضافةِ الظرفِ إليه. والعاملُ في "إذا" جوابُها عند الجمهور وهو "قالوا"، والتقدير: قالوا إنما نحن مصلحون وقتَ القائل لهم لا تُفْسدوا، وقال بعضهم: "والذي نختاره أنَّ الجملةَ/ التي بعدَها وتليها ناصبةٌ لها، وأنَّ ما بعدها ليس في محلِّ خفض بالإِضافةِ لأنها أداةُ شرط، فحكمُها حكمُ الظروفِ التي يُجازى بها، فكما أنك إذا قلتَ: "متى تقمْ أقمْ" كان "متى" منصوباً بفعلِ الشرط فكذلك "إذا". قال هذا القائل: "والذي يُفْسد مذهبَ الجمهور جوازُ قولِك: "إذا قمت فعمورٌ قائمٌ"، ووقوعُ "إذا" الفجائية جواباً لها، وما بعد الفاء وإذا الفجائية لا يَعْمل ما بعدهما فيما قبلهما. وهو اعتراضٌ ظاهر.
وقوله: { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } "إنَّ" حرفٌ مكفوفٌ بـ "ما" الزائدة عن العمل، ولذلك تليها الجملةُ مطلقاً، وهي تفيدُ الحصرَ عند بعضِهم. وأَبْعَدَ مَنْ زعم أن "إنما" مركبة من "إنَّ" التي للإِثبات و "ما" التي للنفي، وأنَّ بالتركيب حدث معنىً يفيد الحصرَ. واعلم أنَّ "إنَّ" وأخواتِها إذا ولِيَتْها "ما" الزائدةُ بَطَلَ عملُها وذهب اختصاصُها بالأسماء كما مرَّ، إلا "ليت" فإنه يجُوز فيها الوجهان سماعاً، وأنشدوا قولَ النابغة:

189ـ قالتْ ألا ليتما هذا الحمامَُ لنا إلى حمامتِنا ونصفَُهُ فَقَدِ

برفع "الحمام" ونصبه، فأمَّا إعمالُها فلبقاءِ اختصاصِها، وأمَّا إهمالُها فلحَمْلِها على أخواتها، على أنه قد رُوي عن سيبويه في البيت أنها معملةٌ على رواية الرفع أيضاً بأن تَجْعل "ما" موصولةً بمعنى الذي، كالتي في قوله تعالى: { { إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ } [طه: 69] و "هذا" خبرُ مبتدأ محذوف هو العائدُ، و "الحَمام" نعتٌ لـ "هذا" و "لنا" خبر لليت، وحُذِف العائدُ وإنْ لم تَطُلْ الصلةُ، والتقدير: ألا ليت الذي هو هذا الحمامُ كائنٌ لنا، وهذا أَوْلى من أن يُدَّعَى إهمالُها، لأن المقتضَى للإِعمال -وهو الاختصاصُ- باقٍ. وزعم بعضُهم أن "ما" الزائدةَ إذا اتصلت بإنَّ وأخواتِها جاز الإِعمالُ في الجميع.
و "نحن" مبتدأ، وهو ضميرٌ مرفوعٌ منفصلٌ للمتكلم، ومن معه، أو المعظِّمِ نفسه، و "مصلحون" خبرُه، والجملةُ في محلِّ نصبٍ لأنها محكيةٌ بقالوا. والجملة الشرطيةُ وهي قولُه: "وإذا قيلَ لهم" عطفٌ على صلة مَنْ، وهي "يقولُ"، أي: ومن الناس مَنْ يقول، ومن الناس مَنْ إذا قيل لهم لا تُفْسِدوا في الأرض قالوا:. وقيل: يجوز أَنْ تكونَ مستأْنفةً، وعلى هذين القولين فلا محلَّ لها من الإِعراب لما تقدم، ولكنها جزءُ كلامٍ على القولِ الأول وكلامٌ مستقل على القول الثاني، وأجازَ الزمخشري وأبو البقاء أن تكون معطوفةً على "يَكْذِبُون" الواقع خبراً لـ "كانوا"، فيكونَ محلُّها النصبَ. وردَّ بعضُهم عليهما بأنَّ هذا الذي أجازاه على أحدِ وَجْهَي "ما" مِنْ قوله { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } خطأٌ، وهو أن تكونَ موصولةً بمعنى الذي، إذ لا عائدَ فيها يعود على"ما" الموصولةِ، وكذلك إذا جُعِلت مصدريةً فإنها تفتقرُ إلى العائد عند الأخفش وابن السراج. والجوابُ عن هذا أنهما لا يُجيزان ذلك إلا وهما يعتقدان أن "ما" موصولةٌ حرفيةٌ، وأمّا مذهبُ الأخفش وابن السراجِ فلا يلزمهما القولُ به، ولكنه يُشْكِل على أبي البقاء وحدَه فإنه يستضعف كونَ "ما" مصدريةً كما تقدم.