التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ
١٤
-البقرة

الدر المصون

قوله تعالى: { وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا }: "إذا" منصوب بقالوا الذي هو جوابٌ لها، وقد تقدَّم الخلافُ في ذلك، و "لَقُوا" فعلٌ وفاعل، والجملةُ في محلِّ خفض بإضافةِ الظرفِ إليها. وأصل لَقُوا: لَقِيُوا بوزن شَرِبوا، فاسْتُثْقِلتِ الضمةُ على الياء التي هي لام الكلمة، فحُذِفَتِ الضمةُ فالتقى ساكنان: لامُ الكلمة وواوُ الجمع، ولا يمكن تحريكُ أحدهما، فَحُذِف الأول وهو الياء، وقُلِبت الكسرةُ التي على القاف ضمةً لتجانِسَ واوَ الضمير، فوزن "لَقُوا": فَعُوا، وهذه قاعدةٌ مطردةٌ نحو: خَشُوا وحَيُوا.
وقد سُمع في مصدر "لَقي" أربعة عشر وزناً: لُقْياً ولِقْيَةً بكسر الفاء وسكون العين، ولِقاء ولِقاءة [ولَقاءة] بفتحها أيضاً مع المدِّ في الثلاثة، ولَقَى ولُقَى بفتح القافِ وضمها، ولُقْيا بضم الفاء وسكون العين ولِقِيَّا بكسرهما والتشديد، ولُقِيَّا بضم الفاء وكسر العين مع التشديد، ولُقْياناً ولِقْيانا بضم الفاء وكسرها، ولِقْيانة بكسر الفاء خاصةً، وتِلْقاء.
و "الذين آمنوا" مفعولٌ به، و "قالوا" جوابُ "إذا"، و "آمنَّا" في محلِّ نَصْبٍ بالقول.
قوله تعالى: { وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ } تقدَّم نظيرُه، والأكثرُ في "خلا" أن يتعدَّى بالباء، وقد يتعدَّى بإلى، وإنما تعدَّى في هذه الآية بإلى لمعنى بديعٍ، وهو أنه إذا تعدَّى بالباء احتمل معنيين أحدهما: الانفرادُ، والثاني: السخرية والاستهزاءُ، تقول: "خَلَوْتُ به" أي سَخِرْتُ منه، وإذا تعدَّى بإلى كان نَصَّاً في الانفرادِ فقط، أو تقول: ضُمِّن خَلا معنى صَرَف فتعدَّى بإلى، والمعنى: صَرفوا خَلاهم إلى شياطينهم، أو تضمَّن معنى ذهبوا وانصرفوا فيكون كقول الفرزدق:

196ـ ألم تراني قالِباً مِجنِّي قد قَتَل اللهُ زياداً عنِّي

أي: صرفه بالقتل، وقيل: هي هنا بمعنى مع، كقوله: { { وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ } [النساء: 2]. وقيل: هي بمعنى الباء، وهذان القولان إنما يجوزان عند الكوفيين، وأمَّا البصريون فلا يجيزون التَجوُّز في الحروف لضَعْفِها. وقيل: المعنى وإذا خَلَوا من المؤمنين إلى شياطينهم، فـ "إلى" على بابِها، قلت: وتقديرُ "مِن المؤمنين" لا يجعلُها على بابِها إلاَّ بالتضمينِ المتقدِّم.
والأصل في خَلَوْا: خَلَوُوْا، فَقُلِبَتِ الواوُ الأولى التي هي لامُ الكلمة ألفاً لتحركِها وانفتاحِ ما قبلها، فبقيَتْ ساكنةً، وبعدَها واوُ الضميرِ ساكنةٌ، فالتقَى ساكنان، فحُذِف أوَّلُهما وهو الألفُ، وبَقِيَتِ الفتحةُ دالَّةً عليهَا.
و "شياطينهم" جمعُ شيطان جمعَ تكسيرٍ، وقد تقدَّم القولُ في اشتقاقه فوزن شياطين: إمَّا فعاليل أو فعالين على حَسَب القَوْلينِ المتقدِّمَيْنِ في الاستعاذة. والفصيح في "شياطين" وبابِه أن يُعْرَبَ بالحركاتِ لأنه جمعُ تكسيرٍ، وفيه لُغَيَّةٌ رديئةٌ، وهي إجراؤُه إجراءَ الجمعِ المذكر السالم، سُمع منهم: "لفلانٍ بستانٌ حولَه بساتون"، وقُرئ شاذاً: { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ ٱلشَّيَاطونُ } [الشعراء: 210].
قوله تعالى: { قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ } إنَّ واسمُها و "معكم" خبرُها، والأصل في إنَّا: إنَّنا، كقوله تعالى:
{ { إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً } [آل عمران: 93]، وإنما حُذِفَتْ إحدى نوني "إنَّ" لَمَّا اتصلت بنونِ نا، تخفيفاً، وقال أبو البقاء: "حُذِفَتِ النونُ الوسطى على القول الصحيح كما حُذِفَتْ في "إنَّ" إذا خُفِّفَتْ.
و "مع" ظرفٌ والضميرُ بعده في محلِّ خفض بإضافتِه إليه وهو الخبرُ كما تقدَّم، فيتعلَّقُ بمحذوف، وهو ظرفُ مكانٍ، وفَهْمُ الظرفيةِ منه قَلِقٌ. قالوا: لأنه يَدُلُّ على الصحبةِ، ومِنْ لازمِ الصحبةِ/ الظرفيةُ، وأمَّا كونُه ظرفَ مكانٍ فلأنه مُخْبِرٌ به عن الجثث نحو: "زيدٌ معك"، ولو كان ظرف زمانٍ لم يَجُزْ فيه ذلك. واعلَم أنَّ "مع" لا يجوزُ تسكينُ عينِها إلا في شعر كقوله:

197ـ وريشي مِنْكُمُ وهَوايَ مَعَكُمْ وإنْ كانَتْ زيارتُكم لِماما

وهي حينئذٍ على ظرفِيتها خلافاً لمَنْ زَعَم أنَّها حينئذٍ حرفُ جرٍّ، وإنْ كان النحاس ادَّعَى الإِجماع في ذلك، وهي من الأسماءِ اللازمةِ للإِضافةِ، وقد تُقْطَعُ لفظاً فتنتصب حالاً غالِباً، تقولُ: جاء الزيدان معاً أي مصطحِبَيْنِ، وقد تقع خبراً، قال الشاعر:

198ـ حَنَنَْتَ إلى رَيَّا ونفسُك باعَدَتْ مَزارَكَ مِنْ رَيَّا وشَعْبَاكُما مَعَا

فَشْعباكما مبتدأ، و "معاً" خبرُه، على أنه يُحتمل أن يكونَ الخبرُ محذوفاً، و "معا" حالاً. واختلفوا في "مع" حالَ قَطْعِها عن الإِضافة: هل هي من باب المقصور نحو: عصا ورحا، أو المنقوص نحو: يد ودم؟ قولان، الأولُ قولُ يونسَ والأخفشِ، والثاني قولُ الخليل وسيبويه، وتظهر فائدة ذلك إذا سَمَّيْنا به فعلى الأول تقول: جاءني معاً ورأيت معاً ومررت بمعاً، وعلى الثاني: جاءني معٌ ورأيت معاً ومررت بمعٍ كيَدٍ، ولا دليلَ على القولِ الأولِ في قوله: "وشَعْباكما معاً لأنَّ معاً منصوبٌ على الظرفِ النائبِ عن الخَبر، نحو: "زيدٌ عندَك" وفيها كلامٌ أطولُ من هذا، تَرَكْتُه إيثاراً للاختصارِ.
قوله: { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } كقوله:
{ { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } [البقرة: 11]، وهذه الجملةُ الظاهرُ أنها لا محلَّ لها من الإِعرابِ لاستئنافِها إذ هي جوابٌ لرؤسائِهم، كأنهم لمَّا قالوا لهم: "إنَّا معكم" توجَّه عليهم سؤالٌ منهم، وهو فما بالُكم مع المؤمنين تُظاهِرونهم على دينهم؟ فأجابوهم بِهذه الجملةِ، وقيل: محلُّها النصب، لأنها بدلٌ من قولِه تعالى: "إنَّا معكم". وقياسُ تخفيفِ همزةِ "مستهزئون" ونحوِه أن تُجْعَلَ بينَ بينَ، أي بين الهمزةِ والحرفِ الذي منه حركتُها وهو الواو، وهو رأيُ سيبويه، ومذهبُ الأخفش قَلْبُها ياءً محضةً. وقد وَقَف حمزةُ على "مستهزئون" و { { فَمَالِئُونَ } [الصافات: 66] ونحوهِما بحَذْفِ صورة الهمزة إتْباعاً لرسمِ المصحفِ.