التفاسير

< >
عرض

ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ
١٤٧
-البقرة

الدر المصون

قوله تعالى: { ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ }: فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنه مبتدأٌ وخبرُه الجارُّ والمجرورُ بعده، وفي الألفِ واللامِ حينئذٍ وجهان، أحدُهما: أن تكونَ للعهدِ، والإِشارةُ إلى الحقِّ الذي عليه الرسولُ عليه السلام أو إلى الحقِّ الذي في قولِه "يكتمون الحقَّ" أي: هذا الذي يكتمونه هو الحقُّ من ربك، وأن تكونَ للجنسِ على معنى الحقُّ من اللهِ لا من غيره. الثاني: أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي: هو الحقُّ من ربك، والضميرُ يعودُ على الحقِّ المكتومِ أي ما كتموه هو الحقُّ. الثالث: أنه مبتدأٌ والخبرُ محذوفٌ تقديرُه: الحقُّ من ربِّك يعرفونه، والجارُّ والمجرورُ على هذين القولين في محل نصبٍ على الحالِ من "الحق"، ويجوز أن يكونَ خبراً بعد خبرٍ في الوجهِ الثاني.
وقرأ علي بن أبي طالب: { الحقَّ من ربك } نصباً، وفيه ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنه منصوبٌ على البدلِ من الحقّ المكتوم، قاله الزمخشري الثاني: أن يكونَ منصوباً بإضمار "الزم" ويدلُّ عليه الخطابُ بعده [في] قوله: "فلا تكونَنَّ" الثالث: أنه يكونَ منصوباً بـ"يَعْلَمون" قبلَه. وذكر هذين الوجهين ابنُ عطية، وعلى هذا الوجهِ الأخيرِ يكونُ مِمَّا وقع فيه الظاهرُ موقعَ المضمر أي: وهم يعلمونَه كائناً من ربك، وذلك سائغٌ حسنٌ في أماكنِ التفخيم والتهويل نحو:

768 ـ لا أَرى الموتَ يَسْبِقُ الموتَ شيءٌ ....................

والنهيُ عن الكونِ على صفةٍ أبلَغُ من النهيِ عن نفسِ الصفةِ فلذلك جاءَ التنزيلُ عليه: نحو { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ } { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ } [الأنعام: 35] دونَ: لا تَمْتَرِ ولا تَجْهَلْ ونحوِه، وتقريرُ ذلك أنَّ قولَه: "لا تكُنْ ظالماً" نهي عن الكونِ بهذه الصفةِ، والنهيُ عن الكونِ على صفةٍ أبلغُ من النهي عن تلك الصفةِ، إذ النهيُ عن الكونِ على صفةٍ يَدُلُّ على عمومِ الأكوانِ المستقبلةِ عن تلكَ الصفةِ، والمعنى لا تَظْلِمْ في كل أكوانِك أي: في كل فردٍ فردٍ من أكوانِك فلا يَمُرُّ بك وقتٌ يؤخذ منك فيه ظلمٌ، فيصيرُ كأن فيه نصاً على سائرِ الأكوانِ بخلاف: لا تَظْلِمْ، فإنَّه يستلزِمُ الأكوانَ، وفَرْقٌ بين ما يَدُلَّ دلالةً بالنصِّ وبين ما يَدُلُّ دلالةً بالاستلزام.
والمتراءُ: افْتِعال من المِرْيَةِ وهي الشَّكُّ، ومنه المِراء قال:

769 ـ فإيَّاك إيَّاكَ المِراءَ فإنَّه إلى الشَّرِّ دَعَّاءٌ وللشَّرِّ جَالِبُ

ومارَيْتُه: جَادَلْتُه وشاكَلْتُه فيما يَدَّعِيه، وافتَعَل فيه بمعنى تَفَاعلَ يقال: تَمارَوْا في كذا وامتَرَوْا فيه نحو: تجاوَروا، واجتوروا. وقال الراغب: "المِرْيَةُ: التَّرَدُّدُ في الأمر وهي أخصُّ من الشك، والامتراءُ والمُماراةُ: المُحاجَّةُ فيما فيه مِرْية، وأصلَهُ من مَرَيْتُ الناقةَ إذا مسحتُ ضَرْعَها للحَلْبِ" ففرَّق بين المِرْيةِ والشَّكِ كما تَرَى، وهذا كما تقدَّم له الفرقُ بين الرَّيْبَ والشك، وأنشدَ الطبري قولَ الأعشى:

770 ـ تَدُرُّ على أَسْؤُقِ المُمْتَرِيــ ــن رَكْضاً إذا ما السرابُ ارْجَحَنْ

شاهداً على أنَّ الممترينَ الشاكُّون، قال: "ووَهِمَ في ذلك لأن أبا عبيدةَ وغيرَه قالوا: الممترون في البيت هم الذين يَمْرُون الخيلَ بأرجلِهم همزاً لتجريَ [كأنهم] يَتَحَلَّبون الجَرْيَ منها".