التفاسير

< >
عرض

يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ ٱلْعَفْوَ كَذٰلِكَ يُبيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلأيَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ
٢١٩
-البقرة

الدر المصون

قوله تعالى: { عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ }: الخمرُ: المُعْتَصَرُ من العِنَبِ إذا غَلى وقَذَفَ بالزَّبَدِ، ويُطْلَقُ على ما غلى وقَذَف بالزَّبَد من غيرِ ماءِ العنب مجازاً.
وفي تسميِتها "خمراً" أربعةُ أقوال، أحدُها: - وهو المشهورُ - أنها سُمِّيتْ بذلك لأنهَا تَخْمُر العقلَ أي تستُرُه، ومنه: خِمارُ المرأة لسَتْرِهِ وَجْهَها، و: "خامِري حَضاجِرُ، أتَاك ما تُحَاذِرُ" يُضْرَبُ للأحمقِ، وحضاجرُ عَلَمٌ للضبُع، أي: استتر عن الناس. ودخَل في خِمار الناس وغِمارهم. وفي الحديث:
"خَمِّروا آنيتَكم" ، وقال:

941 ـ ألا يا زيدُ والضحاكَ سِيرا فَقَدْ جاوَزْتُما خَمَرَ الطرِيقِ

أي: ما يَسْـُرُكما من شجرٍ وغيرِه. وقال العَّجاج يصف مسير جيشٍ ظاهر:

942 ـ في لامعِ العِقْبَانِ لا يَمْشِي الخَمَرْ ..............................

والثاني: لأنها تُغَطَّى حتى تُدْرَكَ وتشتدَّ، ومنه "خَمِّروا آنيتَكم"
والثالث: - قال ابنُ الأنباري - لأنها تخامِرُ العقلَ أي: تخالِطُه، يقال: خامره الداءُ أي: خالَطَه. والرابع: لأنها تُتْرَكُ حتى تُدْرَكَ، ومنه: "اختمر العجينُ" أي: بَلَغَ إدراكُه، وخَمَّر الرأيَ أي: تركَه حتى ظهرَ له فيه وجهُ الصوابِ، وهذه أقوالٌ متقاربةٌ. وعلى هذه الأقوال كلِّها تكونُ الخمرُ في الأصل مصدراً مراداً به اسمُ الفاعلِ أو اسمُ المفعولِ.
والمَيْسِرُ: القِمار، مَفْعِل من اليُسْر، يقال: يَسَرَ يَيْسِر. قال علقمة:

943 ـ لو يَيْسِرون بخيلٍ قد يَسَرْتُ بها وكلُّ ما يَسَرَ الأقَوامُ مَغْرومُ

وقال آخر:

944 ـ أقولُ لهم بالشِّعْبِ إذ يَيْسِرونَني ألم تَيْئَسوا أني ابنُ فارسِ زَهْدَمِ

وفي اشتقاقِه أربعةُ أقوال، أحدُها: من اليُسْر وهو السهولةُ، لأنَّ أَخْذَه سهل. الثاني: من اليَسار وهو الغنى، لأنه يَسْلُبه يساره، الثالثة: مِنْ يَسَر لي كذا أي: وَجَب، حكَاه الطبري عن مجاهد. وردَّ ابنُ عطية عليه. الرابع: من يَسَر إذا جَزَر، والياسرُ الجازرُ، وهو الذي يُجَزِّىء الجَزُور أجزاءً. قال ابن عطية: "وسُمِّيت الجَزُور التي يُسْتَهَمُ عليها مَيْسِراً لأنَّها موضعُ اليُسْرِ، ثم سُمِّيت السهامُ مَيْسِراً للمجاورة" واليَسَرُ: الذي يَدْخُل في الضربِ بالقِدَاح، ويُجْمع على أَيْسار، وقيل، بل "يُسَّر" جمع ياسِر كحارِس وحُرَّس وأَحْراس.
وللميسر كيفيةٌ، ولسهامه - وتُسَمَّى القِداحَ والأزلامَ أيضاً - أسماءٌ لا بُدَّ من ذِكْرها لتوقَّفِ المعنى عليها. فالكيفيةُ أنَّ لهم عشرةَ أقداح وقيل أحدَ عشرَ، لسبعةٍ منها حظوظٌ، وعلى كل منها خطوطٌ، فالخطُّ يقدِّرُ الحَظَّ، وتلك القداحُ هي: الفَذُّ وله سهمٌ واحد، والتَّوْءَمُ وله اثنان، والرقيبُ وله ثلاثةُ، والحِلْسُ وله أربعةٌ، والنافِسُ وله خمسةٌ، والمُسْبِلُ وله ستةٌ، والمُعَلَّى وله سبعةٌ، وثلاثةٌ أغفالٌ لا خطوطَ عليها وهي المَنِيح والسَّفِيح والوَغْدُ، ومَنْ زاد رابعاً سمَّاه المُضَعَّفُ. وإنما كَثُروا بهذه الأغفالِ ليختلطَ على الحُرْضَة وهو الضاربُ، فلا يميلُ مع أحدٍ، وهو رجلٌ عَدْلٌ عندهم، فيجثوا ويلتحِفُ بثوبٍ، ويُخْرِج رأسه، فيجعلُ تلك القداحَ في الرِّبابة وهي الخَريطةُ، ثم يُخَلْخِلُها ويُدْخِلُ يده فيها، ويُخْرِجُ باسم رجلٍ رجلٍ قَدَحاً فَمَنْ خَرَجَ على اسمه قدحٌ: فإنْ كانَ من ذوات السهام فاز بذلك النصيبِ وأخذَه، وإنْ كان من الأغفال غرِّم من الجَزور، وكانوا يفعلون هذا في الشَّتْوة وضيقِ العيش، ويُقَسِّمونه على الفقراء ولا يأكلون منه شيئاً، ويفتخرون بذلك، ويسمون مَنْ لم يَدْخُل معهم فيه: البَرَم، والجَزورُ تُقْسَمُ عند الجمهور على عددِ القداحِ فتقسَمُ عشرةَ أجزاء، وعند الأصمعي على عددِ خطوط القداحِ، فتقسم على ثمانيةٍ وعشرين جزءاً. وخَطَّأ ابنُ عطية الأصمعيَّ في ذلك، وهذا عجيبٌ منه، لأنه يُحْتَمل أنَّ العربَ كانت تقسِّمُها مرةً على عشرةٍ ومرةً على ثمانية وعشرين/.
وقولُه { عَنِ ٱلْخَمْرِ } لا بد من حذفِ مضافٍ، إذ السؤالُ عن ذَاتَيْ الخمرِ والميسرِ غيرُ مُرادٍ. والتقدير. عن حكمِ الخمرِ والميسرِ حِلاًّ، وحُرْمَةً، ولذلك جاء الجوابُ مناسباً لهذا المُقَدَّرِ.
قوله: { فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ } الجارُّ خبرٌ مقدمٌ، و "إثمٌ" مبتدأٌ مؤخر، وتقديمُ الخبرِ هنا ليس بواجبٍ وإن كان المبتدأُ نكرةً، لأنَّ هنا مسوغاً آخر، وهو الوصفُ أو العطفُ، ولا بد من حَذْفِ مضافٍ أيضاً، أي: في تعاطِيهما إثمٌ، لأنَّ الإِثمَ ليس في ذاتِهما.
وقرأ حمزةُ الكسائي: "كثيرٌ" بالثاء المثلثة، والباقونَ بالباء ثانيةِ الحروفِ. ووجهُ قراءةِ الجمهور واضح، وهو أن الإِثمَ يُوصف بالكِبرَ، ومنه آية
{ حُوباً كَبِيراً } [النساء: 2]. وسُمِّيت الموبِقات: "الكبائر"، ومنه قولُه تعالى: { يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ ٱلإِثْمِ } [الشورى: 37]، وشربُ الخمرِ والقمارُ من الكبائرِ، فناسب وصفُ إثمهما بالكِبَر، وقد أجمعَتِ السبعةُ على قوله: "وإثْمهما أكبرُ" بالباء الموحَّدة، وهذه توافقها لفظاً.
وأمَّا وجهُ قراءة الأَخَوَين: فإمَّا باعتبارِ الآثمين من الشاربين والمقامرين فلكلِّ واحدٍ إثمٌ، وإما باعتبارِ ما يترتب على تعاطيهما من توالي العقابِ وتضعيفه، وإمّا باعتبارِ ما يترتَّبُ على شُرْبها مِمَّا يصدُر من شاربها من الأقوال السيئة والأفعال القبيحةِ، وإمَّا باعتبار مَنْ يزاولها من لَدُنْ كانت عِنباً إلى أن شُربَتْ، فقد لَعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمر، ولعن معها عشرةً: بائِعَها ومُبتاعَها، فناسَب ذلك أن يُوصَف إثمُها بالكثرةِ. وأيضاً فإن قوله: "إثم" مقابلٌ لـ"منافع" و "منافع" جمعٌ، فناسَبَ أن تُوصفَ مقابلةً بمعنى الجمعية وهو الكَثْرَةُ. وهذا الذي ينبغي أن يفعله الإِنسانُ في القرآن، وهو أن يَذْكر لكلِّ قراءةٍ توجيهاً من غير تعرُّضٍ لتضعيفِ القراءة الأخرى كما فعل بعضهُم، وقد تقدَّم فصلٌ صالحٌ من ذلك في قراءَتَيْ: "مَلِكَ" و "مالِك".
وقال أبو البقاء: "الأحسنُ القراءةُ بالباء لأنه يُقال: إثمٌ كبير وصغير، ويُقال في الفواحش العظامِ "الكَبائرُ"، وفيما دونَ ذلك "الصغائرُ" وقد قُرىء بالثاءِ وهو جَيدٌ في المعنى، لأن الكثرةَ كِبر، والكثيرَ كبيرٌ، كما أنَّ الصغيرَ حقيرٌ ويَسيرٌ.
وقرأ عبد الله - وكذلك هي في مصحفه - : "وإثمُهما أكثرُ" بالمثلثة، وكذلك الأَولى في قراءتِهِ ومصحفه. وفي قراءةِ أُبَيّ: "أقربُ من نفعِهما".
[وإثمُهما ونفعُهما مصدران مضافان] إلى الفاعل، لأنَّ الخمرَ والميسر سببان فيهما، فهما فاعلان، ويجوز أن تكونَ الإِضافةُ باعتبار أنهما مَحَلُّهما. وقد تقدَّم القولُ مستوفىً على قولِهِ:
{ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ } [البقرة: 215].
وقرأ أبو عمرو: "قلِ العفوُ" رفعاً والباقون نصباً. فالرفعُ على أن "ما" استفهاميةٌ، و "ذا" موصولةٌ، فوقع جوابُها مرفوعاً خبراً لمبتدأ محذوف، مناسبةً بين الجوابِ والسؤال. والتقدير: إنفاقُكُم العفوُ. والنصب على أنهما بمنزلةٍ واحدة، فيكون مفعولاً مقدماً، تقديره: أيَّ شيء ينفقون؟ فوقع جوابُها منصوباً بفعلٍ مقدر للمناسبة أيضاً، والتقديرُ: أنفقوا العفوَ. وهذا هو الأحسنُ، أعني أن يُعتقدَ في حالِ الرفع كونُ "ذا" موصولةً، وفي حال النصبِ كونُها ملغاة. وفي غير الأحسن يجوز أن يقال بكونِها ملغاةً مع رفعِ جوابِها، وموصولةً مع نصبِهِ. وإنما اختصرْتُ القولَ هنا لأني قد استوفيتُ الكلامَ عليها عند قولِهِ تعالى:
{ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ } [البقرة: 26] ومذاهبِ الناسِ فيها، فأغنى عن إعادِتها.
قوله: { كَذٰلِكَ يُبيِّنُ } الكافُ في محلِّ نصبٍ: إمَّا نعتاً لمصدرٍ محذوف أي: تبييناً مثلَ ذلك التبيين يُبَيِّن لكم، وإمَّا حالاً من المصدرِ المعرفة، أي: يبِّين التبيينَ مماثلاً ذلك التبيينَ. والمشارُ إليه يبيِّنُ حالَ المُنْفَقِ أو يبِّين حكمَ الخمرِ والميسرِ والمُنْفَقَ المذكور بعدهما. وأبْعَدَ مَنْ خَصَّ اسمَ الإِشارة ببيانِ حكمِ الخمر والميسر، وأَبْعَدُ منه مَنْ جَعَلَه إشارةً إلى جميع ما سبق في السورة من الأحكامِ.
و "لكم" متعلِّقٌ بـ"يُبَيِّن". وفي اللامِ وجهان، أظهرُهما أنَّها للتبليغ كالتي في: قُلْت لك. والثاني: أنها للتعليلِ وهو بعيدٌ. والكاف في "كذلك" تحتمل وجهين، أحدُهما: أن تكونَ للنبي صلى الله عليه وسلم أو للسامِعِ. فتكونَ على أصلِها من مخاطبة المفرد. والثاني: أن تكونَ خطاباً للجماعةِ فيكونَ ذلك مِمَّا خُوطِبَ به الجمعُ بخطابِ المفردِ، ويؤيِّده قولُه "لكم" و "لعلكم"، وهي لغةٌ للعربِ، يخاطبون في اسم الإِشارة بالكافَ مطلقاً، وبعضُهم يستغنى عن الميمِ بضمة الكاف، قال:

945 ـ وإنَّما الهالِكُ ثم التالِكُ ذو حَيْرَةٍ ضاقَتْ به المسالِكُ

كيف يكون النَّوْكُ إلا ذلكُ