التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَٰسِقِينَ
٢٦
-البقرة

الدر المصون

قولُه تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً }: "لا يَسْتَحْيي" جملةٌ في محل الرفع خبرٌ لـ "إنَّ"، واستفْعَلَ هنا للإِغناء عن الثلاثي المجرد، وقال الزمخشري: "إنه موافق له" أي: قد وَرَدَ حَيِي واسْتَحْيى بمعنى واحد، والمشهور: اسْتَحْيَى يَسْتَحْيِي فهو مُسْتَحْيٍ ومُسْتَحْيى منه من غير حَذْف، وقد جاء اسْتَحَىٰ يَسْتَحِي فهو مُسْتَحٍ مثل: استقى يستقي، وقُرئ به، ويُرْوَىٰ عن ابن كثير. واختُلف في المحذوفِ فقيل: عينُ الكلمة فوزنُه يَسْتَفِل. وقيل: لامُها فوزنُه يَسْتَفِع، ثم نُقِلت حركةُ اللامِ على القولِ الأول وحركةُ العينِ على القولِ الثاني إلى الفاءِ وهي الحاءُ، ومن الحَذْفِ قولُه:

301ـ ألا تَسْتَحِي منا الملوكُ وتَتَّقِي محارِمَنا لا يَبْوُؤُ الدمُ بالدَمِ

وقال آخر:

302ـ إذا ما اسْتَحَيْنَ الماءَ يَعْرِضُ نفسَه كَرُعْنَ بِسَبْتٍ في إناءٍ مِنَ الوَرْدِ

والحياءُ لغةً: تَغَيَّرٌ وانكسارٌ يَعْتري الإِنسانَ من خوفِ ما يُعاب به، واشتقاقُه من الحياة، ومعنا على ما قاله الزمخشري: "نَقَصَتْ حياتُه واعتلَّتْ مجازاً كما يُقال: نَسِي وحَشِيَ وشَظِيَ الفرسُ إذا اعتلَّتْ هذه الأعضاءُ، جُعِل الحَيِيُّ لما يعتريه مِنَ الانكسارِ والتغيُّرِ منتكسَ القوةِ منتقِصَ الحياةِ، كما قالوا: فلان هَلَك من كذا حياءً". انتهى. يعني قوله: "نَسِيَ وَحشِيَ وشَظِيَ" أي أصيب نَساه وهو عِرْقٌ، وحَشاهُ وهو ما احتوىٰ عليه البطن، وشَظاه وهو عَظْم في الوَرِك.
واستعمالُه هنا في حقِّ اللهِ تعالى مجازٌ عن التَّرْكِ، وقيل: مجازٌ عن الخشيةِ لأنها أيضاً مِنْ ثمراتِه، وجَعَلَه الزمخشريُّ من باب المقابلة، يعني أنَّ الكفار لَمَّا قالوا: "أمَا يستحيي ربُّ محمدٍ أن يَضْرِبَ المَثَل بالمُحَقِّراتِ" قوبل قولُهم ذلك بقوله: "إنَّ الله لا يستحيي أن يضربَ"، ونظيرُه قول أبي تمام:

303ـ مَنْ مُبْلِغٌ أفناءَ يَعْرُبَ كلَّها أني بَنَيْتُ الجارَ قبلَ المَنْزِلِ

لو لم يَذْكُرْ بناءَ الدارِ لم يَصِحَّ بناءُ الجارِ.
واستحيى يتعدَّى تارةً بنفسِه وتارةً بحرفِ جرٍّ، تقول: اسْتَحْيَتْهُ، وعليه: "إذا ما اسْتَحَيْنَ الماءَ" البيت، واستَحْيَيْتُ منه، وعليه: "ألا تَسْتَحِي منا الملوكُ" البيت، فيَحْتَمِلُ أن يكونَ قد تعدَّى في هذه الآية إلى "أَنْ يضربَ" بنفسِه فيكونَ في محلِّ نصبٍ قولاً واحداً، ويَحْتَمِل أن يكونَ تَعَدَّى إليه بحرفِ الجرِّ المحذوفِ، وحينئذٍ يَجْري الخلافُ المتقدمُ في قولِه "أنَّ لهم جناتٍ".
و "يَضْرِبَ" معناه: يُبَيِّنَ، فيتعدَّى لواحدٍ. وقيل: معناه التصييرُ، فيتعدَّى لاثنين نحو: "ضَرَبْتُ الطينَ لَبِناً"، وقال بعضُهم: "لا يتعدَّى لاثنين إلا مع المَثَل خاصة"، فعلى القول الأول يكونُ "مَثَلاً" مفعولاً و"ما" زائدةٌ، أو صفةٌ للنكرة قبلَها لتزدادَ النكرةُ شِياعاً، ونظيرُه قولُهم: "لأمرٍ ما جَدَع قَصيرٌ أنفَه" وقولُ امرئ القيس:

304ـ وحديثُ الرَّكْبِ يومَ هنا وحديثٌ ما على قِصَرِهْ

وقال أبو البقاء: "وقيل "ما" نكرةٌ موصوفةٌ"، ولم يَجْعَلْ "بعوضة" صفتَها بل جَعَلَها بدلاً منها، وفيه نظرٌ، إذ يَحْتَاجُ أن يُقَدَِّر صفةً محذوفةً ولا ضرورةَ إلى ذلك فكان الأَوْلى أن يَجْعَلَ "بعوضةً" صفتَها بمعنى أنه وَصَفَها بالجنسِ المُنَكَّرِ لإِبهامِه فهي في معنى "قليل"، وإليه ذهب الفراء والزَّجاج وثعلب، وتكون "ما" وصفتُها حينئذ بدلاً من "مثلاً"، و "بعوضةً" بدلاً من "ما" أو عطفَ بيان لها إنْ قيلَ إنَّ "ما" صفةٌ لـ "مثلاً"، أو نعتٌ لـ "ما" إنْ قيل: إنها بدلٌ من "مثلاً" كما تقدَّمَ في قولِ الفراء، وبدلٌ من "مثلاً" أو عطفُ بيان له إنْ قيلَ: إنَّ "ما" زائدةٌ. وقيل: "بعوضة" هو المفعولُ و "مثلاً" نُصِبَ على الحال قُدِّم على النكرةِ. وقيل: نُصِبَ على إسقاطِ الخافض التقديرُ: ما بينَ بعوضةٍ، فلمَّا حُذِفَتْ "بَيْنَ" أُعربت "بعوضةً" بإعرابها، وتكونُ الفاءُ في قولِه: "فما فوقها" بمعنى إلى، أي: إلى ما فوقها، ويُعْزى هذا للكسائي والفراء وغيرِهم من الكوفيين وأنشدوا:

305ـ يا أحسنَ الناسِ ما قَرْناً إلى قَدَمٍ ولا حبالَ مُحِبٍّ واصِلٍ تَصِلُ

أي: ما بينَ قَرْنٍ، وحَكَوا: "له عشرون ما ناقةً فَحَمْلاً"، وعلى القول الثاني يكونُ "مثلاً" مفعولاً أولَ، و "ما" تحتملُ الوجهين المتقدمين و "بعوضةً" مفعولٌ ثانِ، وقيل: بعوضةً هي المفعولُ الأولُ و "مَثَلاً" هو الثاني ولكنه قُدِّم.
وتلخَّص مِمَّا تقدَّم أنَّ في "ما" ثلاثةَ أوجه: زائدةٌ، صفةٌ لما قبلَها، نكرةٌ موصوفةٌ، وأنَّ في "مَثَلاً" ثلاثةً أيضاً مفعولٌ أولُ، مفعولٌ ثانِ، حالٌ مقدَّمةٌ، وأنَّ في "بعوضة" تسعة أوجهٍ. والصوابُ من ذلك كلّهِ أن يكونَ "ضَرَبَ" متعدياً لواحدٍ بمعنى بَيَّن، و "مثَلاً" مفعولٌ به، بدليلِ قولِه:
{ { ضُرِبَ مَثَلٌ } [الحج: 73]، و "ما" صفةٌ للنكرة، و "بعوضةً" بدلٌ لا عطفُ بيان، لأن عطفَ البَيان ممنوعٌ عند جمهور البصريين في النكراتِ.
وقرأ ابن أبي عَبْلة والضحاك برفع "بعوضةٌ"، واتفقوا على أنها خبرٌ لمبتدأ، ولكنهم اختلفوا في ذلك المبتدأ، فقيل: هو "ما" على أنها استفهاميةٌ، أي: أيُّ شيء بعوضةٌ، وإليه ذهب الزمخشري ورجَّحه. وقيل: المبتدأ مضمرٌ تقديرُه: هو بعوضةٌ، وفي ذلك وجهان، أحدُهما: أن تُجْعَلَ هذه الجملةُ صلةً لـ "ما" لكونِها بمعنى الذي، ولكنه حَذَفَ العائد وإن لم تَطُل الصلةُ، وهذا لا يجوزُ عند البصريين إلا في "أيّ" خاصةً لطولِها بالإِضافة، وأمَّا غيرُها فشاذٌّ أو ضرورةٌ، كقراءةِ: { تَمَاماً عَلَى ٱلَّذِيۤ أَحْسَنُ } [الأنعام: 154]، وقولِه:

306ـ مَنْ يُعْنَ بالحَقِّ لا يَنْطِقْ بما سَفَهٌ ولا يَحِدْ عن سَبيلِ الحَمْدِ والكَرمِ

أي: الذي هو أحسنُ، وبما هو سَفَهٌ، وتكونُ "ما" على هذا بدلاً من "مثلاً"، كأنه قيل: مَثَلاً الذي هو بعوضةٌ. والثاني: أن تُجْعَلَ "ما" زائدةٌ أو صفةً وتكونَ "هو بعوضةٌ" جملةً كالمفسِّرة لِما انطوى عليه الكلامُ.
قولُه: { فَمَا فَوْقَهَا } قد تقدَّم أن الفاءَ بمعنى إلى، وهو قولٌ مرجوجٌ جداً. و "ما" في { فَمَا فَوْقَهَا } إن نَصَبْنا "بعوضةً" كانت معطوفةً عليها موصولةً بمعنى الذي، وصلتُها الظرفُ، أو موصوفةً وصفتُها الظرفُ أيضاً، وإنْ رَفَعْنَا "بعوضةٌ"، وجَعَلْنَا "ما" الأولى موصولةً أو استفهاميةً فالثانيةُ معطوفةٌ عليها، لكنْ في جَعْلِنا "ما" موصولةً يكونُ ذلك من عَطْفِ المفرداتِ، وفي جَعْلِنَا إياها استفهاميةً يكونُ من عَطْفِ الجملِ، وإنْ جَعَلْنَا "ما" زائدةً أو صفةً لنكرة و "بعوضةٌ" خبراً لـ "هو" مضمراً كانت "ما" معطوفةً على "بعوضة".
والبَعُوضةُ واحدةُ البَعُوض وهو معروفٌ، وهو في الأصل وَصْفٌ على فَعُول كالقَطُوع، مأخوذ من البَعْضِ وهو القَطْع، وكذلك البَضْعُ والعَضْب، قال:

307ـ لَنِعْمَ البيتُ بيتُ أبي دِثار إذا ما خافَ بعضُ القومِ بَعْضا

ومعنى: { فَمَا فَوْقَهَا } أي: في الكِبَر وهو الظاهرُ، وقيل: في الصِّغَرِ.
قوله: { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } "أمَّا": حرفٌ ضُمِّن معنى اسمِ شرطٍ وفِعْله، كذا قدَّره سيبويه، قال: "أمَّا" بمنزلةِ مهما يَكُ مِنْ شيءٍ". وقال الزمخشري: "وفائدتُه في الكلامِ أن يُعْطيه فَضْلَ توكيدٍ، تقولُ: زيدٌ ذاهبٌ، فإذا قَصَدْتَ توكيدَ ذلك وأنه لا محالةَ ذاهبٌ قلت: أمَّا زيدٌ فذاهبٌ" وذَكَر كلاماً حسناً بليغاً كعادتِه في ذلك. وقال بعضُهم: "أمَّا" حرفُ تفصيلٍ لِما أَجْمَلَه المتكلِّمُ وادَّعاه المخاطبُ، ولا يليها إلا المبتدأ، وتَلْزَمُ الفاءُ في جوابها، ولا تُحْذَفُ إلاَّ مع قولٍ ظاهرٍ أو مقدَّرٍ كقوله: { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ } [آل عمران: 106] أي: فيقالُ لهم: أَكَفَرْتُمْ، وقد تُحْذَفُ حيث لا قولٌ، كقوله:

308ـ فأمَّا القِتالُ لا قتالَ لديكُمُ ولكنَّ سَيْراً في عِراضِ المواكبِ

أي: فلا قتالَ، ولا يجوزُ أن تليها الفاءُ مباشرةً ولا أن تتأخَّر عنها بِجُزْأَي جملةٍ لو قلت: "أمّا زيدٌ منطلقٌ ففي الدار" لم يَجُزْ، ويجوز أنْ يتقدَّم معمولُ ما بعد الفاءِ عليها، متليٌّ أمّا كقوله: { { فَأَمَّا ٱلْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ } [الضحىٰ: 9]، ولا يجوز الفصلُ بين أمَّا والفاءِ بمعمولِ إنَّ خلافاً للمبرد، ولا بمعمولِ خبر ليت ولعلّ خلافاً للفراء.
وإنْ وَقَعَ بعدها مصدرٌ نحو: أمَّا عِلْماً فعالمٌ": فإنْ كان نكرةً جاز نصبُه عند التميميين برُجْحَان، وضَعُفَ رفعُه، وإن كان معرفةً التزموا فيه الرفع. وأجاز الحجازيون فيه الرفعَ والنصْبَ، نحو: "أمَّا العلمُ فعالمٌ" ونصبُ المنكَّرِ عند سيبويهِ على الحالِ، والمعرَّفُ مفعولٌ له. وأمَّا الأخفشُ فنصبُهما عنده على المفعول المطلق. والنصبُ بفعلِ الشرط المقدَّر أو بما بعد الفاء ما لم يمنْع مانعٌ فيتعيَّنُ فعلُ الشرطِ نحو: أمَّا علماً فلا علَمَ له" أو: فإنَّ زيداً عالمٌ، لأن "لا" و "إنَّ" لا يعملُ ما بعدهما فيما قبلهما، وأمَّا الرفعُ فالظاهرُ أنه بفعلِ الشرط المقدَّر، أي: مهما يُذْكَرْ عِلْمٌ أو العلمُ فزيدٌ عالمٌ، ويجوز أن يكونَ مبتدأ وعالمٌ خبرَ مبتدأ محذوفٍ، والجملَةُ خبرهُ، والتقديرُ: أمَّا علمٌ ـ أو العلمُ ـ فزيدٌ عالِمٌ به وجازَ الابتداءُ بالنكرة لأنه موضعُ تفصيلِ، وفيها كلامٌ أطولُ من هذا.
و { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } في محلِّ رفع بالابتداء، و { فَيَعْلَمُونَ } خبرُه. قوله: { فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ } الفاءُ جوابُ أمَّا، لِما تَضَمَّنَتْه مِنْ معنى الشرطِ و "أنَّه الحقُّ" سادٌّ مَسَدَّ المفعولَيْن عند الجمهورِ، ومَسَدَّ المفعولِ الأولِ فقط والثاني محذوفٌ عند الأخفشِ أي: فَيَعْلَمونَ حقيقتَهُ ثابتةً. وقال الجمهور: لا حاجةَ إلى ذلك لأنَّ وجودَ النسبةِ فيما بعدَ "أنَّ" كافٍ في تَعَلُّق العلمِ أو الظنِّ به، والضميرُ في "أنَّه" عائدٌ على المَثَل. وقيل: على ضَرْبِ المثلِ المفهومِ من الفِعْل، وقيل: على تَرْكِ الاستحياءِ. و "الحقُّ" هو الثابتُ، ومنه "حَقَّ الأمرُ" أي: ثَبَتَ، ويقابِلُه الباطلُ.
وقوله: { مِن رَّبِّهِمْ } في محلِّ نصبٍ على الحالِ مِن "الحق" أي: كائناً وصادراً مِنْ ربهم، و "مِنْ" لابتداءِ الغايةِ المجازيةِ. وقال أبو البقاء: "والعامل فيه معنى الحقِّ، وصاحبُ الحالِ الضميرُ المستتر فيه" أي: في الحق، لأنه مشتقٌ فيتحمَّلُ ضميراً.
قوله: { مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ } اعلَمْ أنَّ "ماذا صنعت" ونحوَه له في كلامِ العربِ ستةُ استعمالات: أن تكون "ما" اسمَ استفهام في محلِّ رفعِ بالابتداءِ، و "إذا" اسمُ إشارةٍ خبرهُ. والثاني: أن تكونَ "ما" استفهاميةً وذا بمعنى الذي، والجملة بعدها صلةٌ وعائدُها محذوفٌ، والأجودُ حينئذٍ أن يُرْفَعَ ما أُجيب به أو أُبْدِلَ منه كقوله:

209ـ ألا تَسْأَلانِ المرءَ ماذا يُحاوِلُ أَنَحْبٌ فَيُقْضىٰ أم ضَلالٌ وباطِلُ

فـ "ذا" هنا بمعنى الذي لأنه أُبْدِلَ منه مرفوعٌ وهو "أَنَحْبٌ"، وكذا { مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ ٱلْعَفْوُ } [البقرة: 219] في قراءة أبي عمرو. والثالث: أن يُغَلَّبَ حكمُ "ما" على "ذا"، فَيُتْرَكا ويَصيرا بمنزلة اسمٍ واحدٍ، فيكونَ في محلِّ نصبٍ بالفعل بعدَه، والأجودُ حينئذٍ أن يُنْصَبَ جوابُه والمبدلُ منه كقولِه: { مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ ٱلْعَفْوَ } في قراءة غير أبي عمروٍ، و "ماذا أَنْزَلَ ربُّكم، قالوا: خيراً: عند الجميع، ومنه قوله:

310ـ يا خُزْرَ تغلبَ ماذا بالُ نِسْوَتِكم لا يَسْتَفِقْنَ إلى الدَّيْرَيْنِ تَحْنانَا

فـ "ماذا" مبتدأ، و "بالُ نسوتكم" خبرُه. الرابع: أن يُجْعَلَ "ماذا" بمنزلةِ الموصول تغليباً لـ "ذا" على "ما"، عكسَ ما تقدَّم في الصورة قبلَه، وهو قليلٌ جداً، ومنه قولُ الشاعر:

311ـ دَعي ماذا عَلِمْتِ سأتَّقيه ولكنْ بالمُغَيَّبِ نَبِّئِيني

فماذا بمعنى الذي لأنَّ ما قبله لا يُعَلَّقُ. الخامسُ: زعم الفارسي أن "ماذا" كلَه يكونُ نكرةً موصوفةً وأنشد: "دَعي ماذا عَلِمْتِ" أي: دَعي شيئاً معلوماً وقد تقدَّم تأويلُه. السادس: ـ وهو أضعفُها ـ أن تكونَ "ما" استفهاماً و "ذا" زائدةً وجميعُ ما تقدَّم يصلُح أن يكون مثالاً له، ولكنَّ زيادةَ الأسماءِ ممنوعةٌ أو قليلةٌ جداً.
إذا عُرِفَ ذلك فقولُُه: { مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ } يجوزُ فيه وجهان دونَ الأربعةِ الباقيةِ، أحَدُهما: أن تكونَ "ما" استفهاميةً في محلِّ رفعٍ بالابتداء، وذا بمعنى الذي، و "أراد الله" صلةٌ والعائدُ محذوفٌ لاستكمالِ شروطِه، تقديره: أرادَه اللهُ، والموصولُ خبرُ "ما" الاستفهاميةِ. والثاني: أن تكونَ "ماذا" بمنزلةِ اسمٍ واحدٍ في محلِّ نَصْبٍ بالفعلِ بعد تقديرُه: أيَّ شيء أرادَ الله، ومحلٌّ هذه الجملةِ النصبُ بالقولِ.
[والإِرادةُ لغةً: طَلَبُ الشيءِ مع الميل إليه، وقد تتجرَّدُ للطلبِ، وهي التي تُنْسَبُ إلى اللهِ تعالى وعينُها واوٌ من رادَ يرودُ أي: طَلَب، فأصلُ أراد أَرْوَدَ مثل أَقام، والمصدرُ الإِرادةُ مثلُ الإِقامةِ، وأصلُها: إرْوَاد فأُعِلَّتْ وعُوِّضَ من محذوفِها تاءُ التأنيث].
قوله: "مَثَلاً" نصبٌ على التمييزِ، قيل: جاءَ على معنى التوكيدِ، لأنه من حيث أُشير إليه بـ "هذا" عُلِم أنه مثلٌ، فجاء التمييزُ بعده مؤكِّداً للاسم الذي أُشير إليه. وقيل: نصبٌ على الحال، واختُلِفَ في صاحِبها فقيل: اسمُ الإِشارةِ، والعاملُ فيها معنى الإِشارةِ، وقيل: اسمُ الله تعالى أَي متمثِّلاً بذلك، وقيل: على القَطْع وهو رأيُ الكوفيين، ومعناه عندهم: أنه كان أصلُه أَنْ يَتْبَعَ ما قبلَه والأصلُ: بهذا المثلِ، فلمَّا قُطِع عن التبعيةِ انتصبَ، وعلى ذلك قولُ امرئ القيس:

312ـ سَوامِقُ جَبَّارٍ أثيثٍ فُروعُهُ وعَاليْنَ قِنْواناً من البُسْرِ أَحْمَرَا

أصله: من البسر الأحمر.
قوله: { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً } "الباء" للسببيةِ، وكذلك في { يَهْدِي بِهِ } وهاتان الجملتان لا محلَّ لهما لأنهما كالبيانِ للجملتينِ المُصَدَّرَتَيْنِ بـ "أمَّا"، وهما من كلام الله تعالى، وقيل: في محلِّ نصب لأنهما صفتان لمَثَلاً، أي: مَثَلاً يُفَرِّقُ الناسَ به، إلى ضُلاَّلٍ ومُهْتدِين، وهما على هذا من كلامِ الكفار, وأجازَ أبو البقاء أن تكونَ حالاً من اسمِ الله أي: مُضِلاً به كثيراً وهادياً به كثيراً. وجَوَّزَ ابن عطية أن تكونَ جملةُ قولَه: { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً } من كلام الكفار، وجملةُ قوله: { وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً } من كلام الباري تعالى. وهذا ليس بظاهرٍ، لأنه إلباسٌ في التركيب. والضميرُ في "به" عائدٌ على "ضَرْب" المضاف تقديراً إلى المثل، أي: بِضَرْب المَثَل، وقيل: الضمير الأول للتكذيبِ، والثاني للتصديق، ودلَّ على ذلك قُوَّةُ الكلام.
وقُرئَ: { يُضِلُّ به كثيرٌ ويُهْدىٰ به كثيرٌ، وما يُضَلُّ به إلا الفاسقُون } بالبناء للمفعول، وقُرئَ أيضاً: { يَضِلُّ به كثيرٌ ويَهْدي به كثيرٌ، وما يَضِلُّ بِه إلا الفاسقون } بالبناء للفاعل، قال بعضهم: "وهي قراءة القَدَرِيَّة" قلت: نقل ابنُ عطية عن أبي عمرو الداني أنها قراءةُ المعتزلة، ثم قال: "وابنُ أبي عَبْلة مِنْ ثِقات الشاميّين" يعني قارئها، وفي الجملة فهي مخالفةٌ لسواد المصحف. فإن قيل: كيف وَصَف المهتدين هنا بالكثرةِ وهم قليلون، لقوله تعالى:
{ { وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ } [ص: 24] { { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ } [سبأ: 13]؟ فالجوابُ أنهم وإن كانوا قليلين في الصورة فهم كثيرون في الحقيقةِ كقولِهِ:

313ـ إنَّ الكرامَ كثيرٌ في البلادِ وإنْ قَلُّوا كما غيرهُم قَلَّ وإنْ كَثُروا

فصار ذلك باعتبارَيْن.
قوله: { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَاسِقِينَ }. الفاسقين: مفعولٌ لـ "يُضِلُّ" وهو استثناءٌ مفرغٌ، وقد تقدَّم معناه، ويجوزُ عند الفراء أن يكونَ منصوباً على الاستثناء، والمستثنى منه محذوفٌ تقديرُه: وما يُضِلُّ به أحداً إلا الفاسقين كقوله:

314ـ نَجا سالمٌ والنَّفْسُ منه بشِدْقِه ولِمَ يَنْجُ إلا جَفْنَ سيفٍ ومِئْزَرا

أي: لم ينجُ بشيء، ومنعَ أبو البقاء نصبَه على الاستثناءِ، كأنه اعتبرَ مذهبَ جمهورِ االبصريين.
والفِسْقُ لغةً: الخروجُ، يقال: فَسَقَتِ الرُّطَبَةُ عن قِشْرِها، أي: خَرَجَتْ، والفَاسِقُ خارجٌ عن طاعةِ الله تعالى، يقال: فَسَق يفسُقُ ويفسِقُ بالضم والكسر في المضارع فِسْقاً وفُسوقاً فهو فاسقٌ. وزعم ابن الأنباري أنه لم يُسْمع في كلامِ الجاهلية ولا في شعرها فاسِقٌ، وهذا عجيب، قال رؤبة:

315ـ يَهْوِينَ في نَجْدٍ وغَوْراً غائراً فواسِقاً عن قَصْدِها جَوائِزاً