التفاسير

< >
عرض

هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّٰهُنَّ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
٢٩
-البقرة

الدر المصون

قوله تعالى: { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ }: هو مبتدأٌ وهو ضميرٌ مرفوعٌ منفصلٌ للغائبِ المذكر، والمشهورُ تخفيفُ واوِهِ وفتحُها، وقد تُشَدَّد كقوله:

320ـ وإنَّ لِساني شُهْدَةٌ يُشْتَفَى بها وَهُوَّ على مَنْ صَبَّهُ اللهُ عَلْقَمُ

وقد تُسَكَّنُ، وقد تُحْذَفُ كقوله:

321ـ فَبَيْنَاهُ يَشْرِي ........... ......................

والموصولُ بعده خَبَرٌ عنه. و "لكم" متعلقٌ بَخَلَقَ، ومعناه السببيةُ، أي: لأجلِكم، وقيل: للمِلْك والإِباحةِ فيكونُ تمليكاً خاصَّاً بما يُنْتَفَعُ منه، وقيلَ: للاختصاص، و "ما" موصولةٌ و "في الأرض" صلُتها، وهي في محلِّ نصبٍ مفعولٌ بها، و "جميعاً" حالٌ من المفعول بمعنى كل، ولا دلالة لها على الاجتماع في الزمانِ، وهذا هو الفارقُ بين قولِك: "جاؤوا جميعاً" و "جاؤوا معاً"، فإنَّ "مع" تقتضي المصاحبةَ في الزمانِ بخلافِ جميع. قيل: وهي هنا حالٌ مؤكِّدةٌ لأنَّ قولَه: "ما في الأرضِ" عامٌّ.
قوله: { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } أصل "ثُمَّ" أن تقتضيَ تراخياً زمانياً، ولا زمانَ هنا، فقيل: إشارةٌ إلى التراخي بين رتبتي خَلْقِ الأرضِ والسماءِ. وقيل: لَمَّا كان بين خَلْقِ الأرضِ والسماءِ أعمالٌ أُخَرُ مِنْ جَعْلِ الجبالِ والبركةِ وتقديرِ الأقواتِ ـ كما أشار إليه في الآيةِ الأخرى ـ عَطَفَ بثُمَّ إذ بين خَلْقِ الأرضِ والاستواءِ إلى السماءِ تراخٍ.
واستوىٰ معناه لغةً: استقامَ واعتدلَ، مِن استوىٰ العُود. وقيل: عَلاَ وارتفع قال الشاعر:

322ـ فَأَوْرَدْتُهُمْ مَاءً بفَيْفاءَ قَفْرَةٍ وقد حَلَّقَ النجمُ اليمانيُّ فاسْتَوَى

وقال تعالى: { { فَإِذَا ٱسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ } [المؤمنون: 28]، ومعناه هنا قَصَد وعَمَدَ، وفاعل استوىٰ ضميرٌ يعودُ على الله، وقيل: يعودُ على الدخان نقله ابن عطية، وهذا غلطٌ لوجهين، أحدهُما: عَدَمُ ما يَدُلُّ عليه، والثاني: أنه يَرُدُّهُ قولُه: ثُمَّ استوىٰ إلى السماء، وهي "دُخانٌ". و "إلى" حرفُ انتهاءٍ على بابها، وقيل: هي بمعنى "على" فيكونُ في المعنى كقولِ الشاعر:

323ـ قد استوى بِشْرٌ على العِراقِ مْنِ غيرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مُهْرَاقِ

أي: استولى، ومثلُه قول الآخر:

324ـ فلمّا عَلَوْنَا واسْتَوَيْنَا عليهِمُ تَرَكْنَاهُمُ صَرْعَى لِنَسْرٍ وكاسِرِ

وقيل: ثَمَّ مضافٌ محذوفٌ، ضميرُه هو الفاعلُ أي استوى أمرُهُ، و { إِلَى ٱلسَّمَآءِ } متعلِّقٌ بـ "استوى"، و "فَسَوَّاهُنَّ" الضميرُ يعودُ على السماءِ: إمَّا لأنها جَمْعُ سَماوَة كما تقدَّم، وإمَّا لأنَّها اسمُ جنسٍ يُطْلَقُ على الجَمْعِ، وقال الزمخشري: "هُنَّ" ضميرٌ مُبْهَمٌ، و "سبعَ سماواتٍ" يُفَسِّرُهُ كقولِهم: "رُبَّه رَجُلاً". وقد رُدَّ عليه هذا، فإنَّه ليس من المواضِعِ التي يُفَسَّر فيها الضميرُ بما بعدَه، لأنَّ النحويين حَصَروا ذلك في سبعةِ مواضع: ضميرِ الشأن، والمجرور بـ "رُبَّ"، والمرفوعِ بنعْمَ وبِئْسَ وما جرى مَجْراهما، وبأوَّلِ المتنازِعَيْن والمفسَّر بخبرهِ وبالمُبْدِلِ منه، ثم قال هذا المعترض: "إلاَّ أن يُتَخَيَّلَ فيه أن يكونَ "سبع سماواتٍ" بدلاً وهو الذي يقتضيه تشبيهُه برُبَّه رجلاً، فإنه ضميرٌ مبهمٌ ليس عائداً على شيء قبلَه، لكن هذا يَضعفُ بكونِ هذا التقديرِ يَجْعَلُه غيرَ مرتبطٍ بما قبلَهُ ارتباطاً كلياً، فيكونُ أَخْبَرَ بإخبارينِ أحدُهما: أنه استوى إلى السماء. والثاني: أنه سَوَّى سبع سماوات، وظاهرُ الكلامِ أن الذي استوى إليه هو المُسَوَّى بعينه.
قوله: { سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } في نصبه خمسةُ أوجه، أحسنُها: أنه بدلٌ من الضميرِ في { فَسَوَّاهُنَّ } العائدِ على السماءِ كقولِكَ: أخوك مررتُ به زيدٍ. الثاني: أنه بدلٌ من الضميرِ أيضاً، ولكن هذا الضمير يُفَسِّرُهُ ما بعده. وهذا يَضْعُفُ بما ضَعُفَ بِهِ قولُ الزمخشري، وقد تقدَّم آنِفاً. الثالث: أنه مفعولٌ به، والأصلُ: فَسَوَّى مِنْهُنَّ سبعَ سماواتٍ، وشبَّهُوهُ بقولِهِ تعالى:
{ { وَٱخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ } [الأعراف: 155] أي: مِنْ قومه، قاله أبو البقاء وغيرُه. وهذا ضعيفٌ لوجهين، أحدُهما بالنسبة إلى اللفظِ. والثاني بالنسبة إلى المعنى. أمَّا الأولُ: فلأنه ليس من الأفعالِ المتعديةِ لاثنينِ أحدُهما بإسقاطِ الخافضِ لأنها محصورةٌ في أمر واختار وأخواتِهما. الثاني: أنه يقتضي أن يكونَ ثَمَّ سماواتٌ كثيرةٌ، سوَّى من جملتِها سبعاً وليس كذلك. الرابعُ: أنَّ "سَوَّى" بمعنى صَيَّر فيتعدَّى لاثنين، فيكونُ "سبع" مفعولاً ثانياً، وهذا لم يَثْبُت أيضاً أعني جَعْلَ "سَوَّى" مثل صَيَّرَ. الخامس: أن ينتصبَ حالاً ويُعْزَى للأخفش. وفيه بُعْدٌ من وجهين: أحدُهما: أنه حالٌ مقدَّرَةٌ وهو خلافُ الأصل. والثاني: أنها مؤولةٌ بالمشتقِّ وهو خلافُ الأصلِ أيضاً.
قوله: { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } "هو" مبتدأ و "عليمٌ" خبره، والجارُّ قبلَه يتعلَّق به.
واعلم أنه يجوزُ تسكين هاء "هو" و "هي" بعد الواو والفاء ولامِ الابتداءِ وثم، نحو:
{ { فَهِيَ كَٱلْحِجَارَةِ } [البقرة: 74]، { { ثُمَّ هُوَ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } } [القصص: 61] { { لَهُوَ ٱلْغَنِيُّ } [الحج: 64] { { لَهِيَ ٱلْحَيَوَانُ } [العنكبوت: 64]، تشبيهاً لـ "هو" بعَضْد، ولـ "هي" بكَتْف، فكما يجوز تسكين عين عَضُد وكَتِف يجوزُ تسكينُ هاء "هو" و "هي" بعد الأحرفِ المذكورةِ، إجراء للمنفصل مُجْرى المتصلِ لكثرةِ دَوْرِها مَعَها، وقد تُسَكَّنُ بعد كافِ الجرِّ كقوله:

325ـ فَقُلْتُ لَهُمْ ما هُنَّ كَهْي فكيف لي سُلُوٌّ، ولا أَنْفَكُّ صَبَّاً مُتَيَّمَا

وبعد همزة الاستفهامِ كقوله:

326ـ فقُمْتُ للطَّيْفِ مُرْتاعاً فَأَرَّقَنِي فقلتُ أَهْيَ سَرَتْ أم عادني حُلُمُ

وبعد "لكنَّ" في قراءة ابن حمدون: { لَّكِنَّ هْوَ ٱللَّهُ رَبِّي } [الكهف: 38] وكذا من قوله: { يُمِلُّ هْوَ } [البقرة: 282].
فإن قيل: عليمَ فَعيل مِن عَلِم متعدٍّ بنفسه تَعَدَّى بالباء، وكان مِنْ حقِّه إذا تقدَّم مفعولُه أَنْ يتعدَّى إليه بنفسِه أو باللامِ المقوِّية، وإذا تأخَّرَ أَنْ يتعدَّى إليه بنفسه فقط؟ أن أمثلةَ المبالغةِ خالفَتْ أفعالَها وأسماءَ فاعِليها لمعنى وهو شَبَهُها بأَفْعل التفضيل بجامعِ ما فيها من معنى المبالغةِ، وأفعلُ التفضيلِ له حُكْمٌ في التعدِّي، فـأُعْطِيتَ أمثلةُ المبالغةِ ذلك الحُكْمَ: وهو أنها لا تخلُو من أن تكونَ من فِعْلٍ متعدٍّ بنفسِه أولا، فإن كان الأول: فإمّا أن يُفْهِمَ علماً أو جهْلاً أَوْ لا، فإن كان الأولَ تعدَّت بالباء نحو:
{ { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ } [النجم: 32] { { وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } [الحديد: 6], وزيدٌ جهولٌ بك وأنت أجهل به. وإن كان الثانيَ تعدَّتْ باللامِ نحو: أنا أضربُ لزيدٍ منك وأنا له ضرَّاب، ومنه { { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [هود: 107]، وإن كانَتْ من متعدٍّ بحرفِ جر تعدَّت هي بذلك الحرفِ نحو: أنا أصبرُ على كذا، وأنا صبورٌ عليه، وأزهدُ فيه منك، وزهيدٌ فيه. وهذا مقررٌ في علم النحو.