التفاسير

< >
عرض

قَالَ لَهُمْ مُّوسَىٰ وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ ٱفْتَرَىٰ
٦١
-طه

الدر المصون

قوله: { فَيُسْحِتَكُم }: قرأ الأخَوان وحفص عن عصام "فيُسْحِتَكم" بضم الياء وكسر الحاء. والباقون بفتحهما. فقراءة الأخوين مِنْ أسْحَتَ رباعياً وهي لغةُ نجدٍ وتميم. قال الفرزدق التميمي:

3296ـ وعَضُّ زمانٍ يا بنَ مروانَ لم يَدَعْ من المالِ إلاَّ مُسْحَتاً أو مُجَلَّفُ

وقراءةُ الباقين مِنْ سَحَتَه ثلاثياً وهي لغةُ الحجاز. وأصلُ هذه المادةِ الدلالةُ على الاستقصاءِ والنَّفاد. ومنه سَحَتَ الحالقُ الشَّعْرَ أي: استقصاه فلم يتركْ منه شيئاً، ويستعملُ في الإِهلاك والإِذهاب. ونصبُه بإضمار "أَنْ" في جواب النهي. ولَمَّا أنشد الزمخشريُّ قولَ الفرزدق "إلاَّ مُسْحَتاً أو مُجْلَّفُ" قال بعد ذلك: "في بيتٍ لم تَزَلِ الرُّكَبُ تَصْطَكُّ في تسويةِ إعرابه".
قلت: يعني أن هذا البيتَ صعبُ الإِعرابِ، وإذ قد ذَكَر فَلأَذْكُرْ ما ورد في هذا البيتِ من الروايات، وما قال الناس في ذلك على حسبِ ما يليق بهذا الموضوعِ، فأقولُ وبالله الحَوْلُ: رُوي هذا البيتُ بثلاثِ روايات، كل واحدة لا تَخْلو من ضرورةٍ: الأُولى "لم يَدَعْ" بفتح الياءِ والدال ونصب "مُسْحَت". وفي هذه خمسةُ أوجه:
الأول: أنَّ معنى لم يَدَعْ من المال إلاَّ مُسْحتاً: لم يَبْقَ إلاَّ مُسْحَت، فلما كان هذا في قوة الفاعل عَطَفَ عليه قولَه: "أو مُجَلَّفُ" بالرفع. وبهذا البيتِ استشهد الزمخشريُّ على قراءة أُبَيّ والأعمش "فَشربوا منه إلاَّ قليلٌ" برفع "قليل" وقد تقدَّم ذلك. الثاني: أنه مرفوعٌ بفعلٍ مقدرٍ دَلَّ عليه لم يَدَعْ، والتقدير: أو بقي مُجَلَّفٌ. الثالث: "أن "مُجَلَّفُ" مبتدأ، وخبرُه مضمرٌ تقديره: أو مُجَلَّف كذلك وهو تخريج الفراء. الرابع: أنه معطوفٌ على الضميرِ المستتر في "مُسْحتاً"، وكان مِنْ حقِّ هذا أن يَفْصِل بينهما بتأكيدٍ أو فاصلٍ ما. إلاَّ أنَّ القائلَ بذلك لا يَشْترط وهو الكسائيُّ. وأيضاً فهو جائزٌ في الضرورة عند الكل. الخامس: أن يكونَ "مُجَلَّف" مصدراً بزنة اسم المفعول كقولِه تعالىٰ:
{ كُلَّ مُمَزَّقٍ } [سبأ: 19] أي: تَجْليف وتمزيق، وعلى هذا فهو نَسَقٌ علت "عَضُّ زمانٍ" إذ التقدير: رَمَتْ بنا همومٌ المُنَى وعَضُّ زمانٍ أو تجليف، فهو فاعلٌ لعطفِه على الفاعل، وهو قولُ الفارسيِّ. وهو عندي أحسنُها.
الروايةُ الثانية: فتحُ الياءِ وكسرُ الدال ورفعُ مُسْحت. وتخريجُها واضحٌ: وهو أن تكون مِنْ وَدَع في بيته يَدِع فهو وادع، بمعنى: بقي يبقىٰ فهو باقٍ، فيرتفعُ مُسْحَتٌ بالفاعلية، ويُرْفَعُ "مُجَلَّفُ" بالعطفِ عليه. ولا بُدَّ حينئذٍ من ضميرٍ محذوفٍ وتقديرُه: مِنْ أجله أو بسببه.... الكلام.
الرواية الثالثة: "يُدَعْ" بضمِّ الياء وفتح الدال على ما لم يُسَمَّ فاعلُه، و"مُسْحَت" بالرفع لقيامِه مَقام الفاعلِ، و"مُجَلَّف" عطفٌ عليه. وكان مِنْ حَقِّ الواو أن لا تُحْذف، بل تَثْبُتُ لأنها لم تقع بين ياءٍ وكسرة، وإنما حُذِفَتْ حملاً للمبني للمفعول على المبني للفاعل. وفي البيت كلامٌ أطولُ من هذا تركتُه اختصاراً وهذا لُبُّه. وقد ذكرته في البقرة وفَسَّرْت معناه ولغَته، ووَصَلْتُه بما قبله فعليك بالالتفاتِ إليه.