التفاسير

< >
عرض

قَالَ بَلْ أَلْقُواْ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ
٦٦
-طه

الدر المصون

قوله: { فَإِذَا حِبَالُهُمْ }: هذه الفاءُ عاطفةٌ على جملةٍ محذوفةٍ دَلَّ عليها السياقُ. والتقدير: فَأَلْقَوْا فإذا. و"إذا" هذه التي للمفاجَأة. وفيها ثلاثة أقوال تقدَّمت. أحدُها: أنها باقيةٌ على ظرفيةِ الزمان. الثاني: أنها ظرفُ مكانٍ. الثالث: أنها حرفٌ.
قال الزمخشري:"والتحقيق فيها أنها الكائنةُ بمعنى الوقتِ الطالبةُ ناصباً لها، وجملةً تُضاف إليها خُصَّتْ في بعضِ المواضع بأن يكونَ الناصبُ لها فعلاً مخصوصاً، وهو فِعْلُ المفاجأةِ، والجملةٌ ابتدائيةٌ لا غير. فتقديرُ قولِه تعالىٰ { فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ }: ففاجأ موسىٰ وقتَ تخييلِ سَعْيِ حبالِهم وعِصيِّهم، [وهذا تمثيل. والمعنىٰ: على مفاجأته حبالُهم وعصيُهم مُخَيِّلَةً إليه السَّعْيَ" انتهى].
قال الشيخ: "قوله "إنَّها زمانية" مرجوحٌ، وهو مذهب الرِّياشي. وقوله "الطالبةُ ناصباً" صحيحٌ. وقوله: "وجملةٌ تضاف إليها" ليس صحيحاً عند بعض أصحابنا لأنها: إمَّا أَنْ تكونَ هي خبراً لمبتدأ، وإمَّا أَنْ تكونَ معمولةً لخبر المبتدأ. وإذا كان كذلك استحال أَنْ تُضافَ إلى الجملةِ؛ لأنها: إمَّا أَنْ تكونَ بعضَ الجملةِ، أو معمولةً لبعضِها فلا يمكن الإِضافةُ. وقوله: "خُصَّتْ في بعض المواضع إلى آخره" قد بَيَّنَّا الناصبَ لها. وقولُه: "والجملةُ بعدها ابتدائيةٌ لا غير" هذا الحَصْرُ ليس بصحيحٍ بل قد جَوَّز الأخفشُ، ونصَّ على أن الجملةَ الفعليةَ المقترنةَ بـ"قد" تقع بعدَها نحو "خرجْتُ فإذا زيدٌ قد ضربه عمروٌ" برفعِ "زيد" ونصبِه على الاشتغال. وقوله: "والمعنىٰ: على مفاجأته حبالُهم وعِصِيُّهم مخيِّلةً إليه السَّعْيَ" فهذا عكسُ ما قُدِّر بل المعنى: على مفاجأةِ حبالِهم وعصيِّهم إياه. فإذا قتل: "خَرَجْتُ فِإذا السَّبُعُ" فالمعنى: أنه فاجأني السَّبُعُ وهجم ظهورُه" انتهى ما رَدَّ به.
قوله وما رَدَّ به عليه غيرُ لازمٍ له، لأنه يَرُدُّ عليه بقولِ بعض النحاةِ، وهو لا يلتزم ذلك القولَ حتى يَرُدَّ عليه لا سيما إذا كان المشهورُ غيرَه، ومقصودُه تفسيرُ المعنىٰ.
وقال أبو البقاء: الفاءُ جوابُ ما حُذِف، تقديرُه "فَأَلْقَوْا فإذا"، فـ"إذا" في هذا ظرفُ مكانٍ، العاملُ فيه "أَلْقَوْ". وفي هذا نظر؛ لأنَّ "أَلْقَوْا" هذا المقدَّرَ لا يَطْلُبُ جواباً حتى يقول: الفاءُ جوابُه، بل كان ينبغي أَنْ يقولَ: الفاءُ عاطفةٌ هذه الجملةَ الفجائية على جملةٍ أخرىٰ مقدرةٍ. وقولُه "ظرف مكانٍ"، هذا مذهبُ المبردِ، وظاهرُ قولِ سيبويه أيضاً، وإن كان المشهورَ بقاؤها على الزمان. وقوله: "إن العامل فيها"فأَلْقَوا" لا يجوز لأنَّ الفاءَ تمنع من ذلك.
هذا كلامُ الشيخ ثم قال بعده: "ولأنَّ "إذا" هذه إنما هي معمولةٌ لخبرِ المبتدأ الذي هو "حبالُهم وعِصٍيُّهم" إن لم يجَعلْها هي في موضع الخبر؛ لأنه يجوزُ أن/ يكونَ الخبرُ "يُخَيَّل"، ويجوز أَنْ تكونَ "إذا" و"يُخَيَّل" في موضعِ الحال. وهذا نظير: "خرجْتُ فإذا الأسدُ رابضٌ ورابضاً" فإذا رَفَعْتَ "رابضاً" كانت "إذا" معمولةً له، والتقدير: فالبحضرة الأسدُ رابضٌ، أو في المكان. وإذا نَصَبْتَ كانت "إذا" خبراً. ولذلك يُكْتفى بها وبالمرفوع بعدها كلاماً، نحو: "خَرَجْتُ فإذا الأسدُ".
قوله: { يُخَيَّلُ إِلَيْهِ } قرأ العامَّة "يُخَيَّل" بضمِّ الياء الأولى وفتحِ الثانية مبنياً للمفعول. و"أنَّها تَسْعى" مرفوعٌ بالفعلِ قبلَه لقيامِه مقامَ الفاعلِ تقديرُه: يُخَيَّل إليه سَعْيُها. وجوَّز أبو البقاء فيه وجهين آخرين: أحدهما: أَنْ يكونَ القائمُ مَقامَ الفاعلِ ضميرَ الحبالِ والعِصِيِّ، وإنما ذُكِّرَ ولم يَقُلْ ِ"تُخَيَّل" بالتاء مِنْ فوقُ؛ لأنَّ تأنيثَ الحبالِ غيرُ حقيقي. الثاني: أنَّ القائمَ مقامَ الفاعلِ ضميرٌ يعودُ على المُلْقى، ولذلك ذُكِّرَ. وعلى الوجهين ففي قولِه "أنها تسعى" وجهان، أحدُهما: أنَّه بدلُ اشتمالٍ من ذلك الضمير المستترِ في "يُخَيَّل". والثاني: أنه مصدرٌ في موضع نصبٍ على الحالِ من الضميرِ المستتر أيضاً. والمعنى: يُخَيَّل إليه هي أنها ذاتُ سَعْيٍ. ولا حاجةَ إلىٰ هذا، وأيضاً فقد نَصُّوا على أنَّ المصدرَ المؤول لا يقع موقعَ الحالِ. لو قلت: "جاء زيدٌ أَنْ يركضَ" تريد ركضاً، بمعنىٰ ذا ركض، لم يَجُزْ.
وقرأ ابن ذكوان "تُخَيَّلُ" بالتاء من فوق. وفيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّ الفعلَ مُسْنَدٌ لضميرِ الحبالِ والعِصِيِّ أي: تُخَيَّلُ الحبالُ والعِصِيُّ، و"أنَّها تَسْعَى" بدلُ اشتمال من ذلك الضميرِ. الثاني: كذلك إلاَّ أنَّ "أنَّها تَسْعى" حالٌ أي: ذات سعي كما تقدَّم تقريرُه قبل ذلك. الثالث: أن الفعلَ مسندٌ لقولِه "أنَّها تَسْعى" كقراءةِ العامَّةِ في أحدِ الأوجهِ، وإنما أَنَّثَ الفعلَ لاكتسابِ المرفوعِ التأنيثَ بالإِضافة؛ إذا التقديرُ: تُخَيَّلُ إليه سعيُها فهو كقوله:

3302ـ ......................... ......... شَرِقَتْ صدرُ القناةِ من الدمِ

[وقوله تعالى:] { فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } [الأنعام: 160].
وقرأ أبو السَّمَّال "تَخَيَّلُ" بفتح التاءِ والياء مبنياً للفاعلِ، والأصلُ: تَتَخَيَّلُ فَحَذَفَ إحدى التاءَيْن نحو:
{ تَنَزَّلُ ٱلْمَلاَئِكَةُ } [القدر: 4]، و"أنَّها تَسْعَىٰ" بدلُ اشتمالٍ أيضاً من ذلك الضمير. وجَوَّز ابنُ عطيةَ أيضاً أنه مفعولٌ مِنْ أجله. ونقل ابنُ جُبارة الهُذَليُّ قراءة أبي السمَّال "تُخَيِّل" بضمِّ التاء مِنْ فوقُ وكسر الياء، فالفعلُ مسندٌ لضميرِ الحِبال، و"أنها تَسْعىٰ" مفعولٌ أي: تُخَيِّلُ الحبالُ سَعْيَها. ونَسَبَ ابنُ عطيةَ هذه القراءةَ للحسنِ وعيسى الثقفيِّ.
وقرأ أبو حيوةَ "نُخَيِّل" بنونِ العظمة، و"أنها تَسْعَىٰ" مفعولٌ به أيضاً على هذه القراءةِ.
وقرأ الحسنُ والثقفيُّ "عُصِيُّهم" بضم العين حيث وقع، وهو الأصلُ. وإنما كُسِرَت العينُ إتباعاً للصادِ وكُسِرت الصادُ إتباعاً للياء. والأصلُ عُصُوْوٌ بواوين فَأُعِلَّ ـ كما ترى ـ بقَلْب الواوين ياءَيْن استثقالاً لهما، فكُسِرَت الصادُ لتصِحَّ، وكُسِرَتِ العينُ إتباعاً. ونقل صاحبُ "اللوامح" أنَّ قراءةَ الحسنِ "عُصْيهُم" بضم العين وسكون الصاد وتخفيف الياء مع الرفع، وهو أيضاً جمع كالعامَّة، إلاَّ أنه على فُعْلٍ كحُمْرٍ، والأولُ على فُعُوْل كفُلُوس.
والجملةُ من "يُخَيَّل" يُحتمل أَنْ تكونَ في محلِّ رفع خبراً لـ"هي" على أن "إذا الفجائية" فَضْلَةٌ، وأن تكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ، على أنَّ "إذا" الفجائية هي الخبر. والضميرُ في "إليه" الظاهرُ عَوْدُه على موسىٰ. وقيل: يعود على فرعون، ويَدُلُّ للأولِ قولُه تعالى: { فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَىٰ }.