التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ ٱلْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلْقَآئِمِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ
٢٦
-الحج

الدر المصون

قوله: { وَإِذْ بَوَّأْنَا }: أي: اذكرْ حينَ. واللامُ في "لإِبراهيم" فيها ثلاثةُ أوجهٍ أحدُها: أنها للعلةِ، ويكون مفعولُ "بَوَّأْنا" محذوفاً أي: بَوَّأْنا الناسَ لأجل إبراهيم مكانَ البيت. و"بَوَّأَ" جاء متعدياً صَرِيحاً قال تعالى: { وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } [يونس: 93]، { { لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ ٱلْجَنَّةِ غُرَفَاً } [العنكبوت: 58]. وقال الشاعر:

3382ـ كَمْ مِنْ أَخٍ ليَ صالحٍ بَوَّأْتُه بيَديَّ لَحْدا

والثاني: أنها مزيدةٌ في المفعولِ به. وهو ضعيفٌ؛ لِما عَرَفْتَ أنها لا تُزاد إلاَّ إنْ تَقَدَّم المعمولُ، أو كان العاملُ فرعاً الثالث: أَنْ تكونَ مُعَدِّيَةً للفعل على أنه مُضَمَّنٌ معنى فعل يتعدَّى بها أي: هَيَّأنا له مكانَ البيتِ كقولك: هَيَّأْتُ له بيتاً، فتكونُ اللامُ مُعدِّيَةً قال معناه أبو البقاء. وقال الزمخشري: "واذكرْ حينَ جَعَلْنا لإِبراهيمَ مكان البيت مباءة" ففسَّر المعنى بأنه ضَمَّن "بَوَّأْنا" معنى جَعَلْنا، ولا يريد تفسيرَ الإِعرابَ.
وفي { مَكَانَ ٱلْبَيْتِ } وجهان، أظهرُهما: أنَّه مفعولٌ به. والثاني: قال أبو البقاء: "أَنْ يكونَ ظرفاً". وهو ممتنعٌ من حيث إنَّه ظرفٌ مختصٌّ فحَقُّه أن يتعدَّىٰ إليه بـ في.
قوله: { أَن لاَّ تُشْرِكْ } في "أنْ هذه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّها هي المفسَّرةُ. قال الزمخشري: ـ بعد أَنْ ذكَرَ هذا الوجه ـ : "فإن قلتَ: كيف يكونُ النهيُ عن الشرك والأمرِ بتطهيرِ البيتِ تفسيراً للتبوِئَةِ؟ قلت: كانت البتوئةُ مقصودةً من أجل العبادةِ، وكأنه قيل: تعبَّدْنا إبراهيمَ قُلْنا له: لا تُشْرِكْ". قلت: يعني أبو القاسم أنَّ "أنْ" المفسرةَ لا بُدَّ أن يتقَدَّمها ما هو بمعنى القولِ لا حروفِه، ولم يتقدَّم إلاَّ التَّبْوِئَةُ وليست بمعنى القول، فضَمَّنها معنى القول، ولا يريدُ بقولِه "قلنا: لا تشرك" تفسيرَ الإِعراب بل تفسيرُ المعنى؛ لأنَّ المفسِّرةَ لا تفسِّر القولَ الصريح. وقال أبو البقاء: "تقديرُه: قائِلين له: لا تشركْ فـ" أنْ" مفسرةٌ للقولِ المقدَّر" وهذا... .
الثاني: أنَّها المخففةُ من الثقيلةِ، قاله ابن عطية. وفيه نظرٌ من حيث إن "أَنْ" المخففةَ لا بُدَّ أَنْ يتقدَّمَها فعلُ تحقيقٍ أو ترجيح، كحالِها إذا كانَتْ مشددة.
الثالث: أنها المصدريةُ التي تنصِبُ المضارعَ، وهي تُوْصَلُ بالماضي والمضارعِ والأمرِ، والنهي كالأمر. وعلى هذا فـ"أنْ" مجرورةٌ بلام العلةِ مقدرةً أي: بَوَّأناه لئلا تشركَ. وكان من حقِّ اللفظِ على هذا الوجه أن يكون "أن لا يشرك" بياء الغَيْبةِ، وقد قُرىء بذلك. قال أبو البقاء: "وقَوَّىٰ ذلك قراءةُ مَنْ قرأه بالياء" يعني مِنْ تحتُ. قلت: ووجهُ قراءةِ العامَّةِ على هذا التخريج أن تكونَ من الالتفاتِ من الغيبة إلى الخطاب.
الرابع: أنها الناصبةٌ، ومجرورةٌ بلام أيضاً. إلاَّ أن اللامَ متعلقةٌ بمحذوفٍ أي: فَعَلْناه ذلك لئلا تشركَ، فجعل النهيَ صلةً لها. وقوَّى ذلك قراءةُ الياء. قاله أبو البقاء والأصلُ عدمُ التقديرِ مع عدمِ الاحتياج إليه.
وقرأ عكرمة وأبو نهيك "أن لا يُشرِك" بالياء. قال الشيخ:"على معنىٰ: أَنْ يقولَ معنى القول الذي قيل له". وقال أبو حاتم: "ولا بُدَّ مِنْ نصبِ الكافِ على هذه القراءةِ بمعنى لئلا تشركَ". قلت: كأنه لم يظهرْ له صلةٌ "أنْ المصدرية بجملةِ النهي. فجعل "لا" نافيةً، وسلَّط "أنْ" على المضارعِ بعدها، حتى صار علةً للفعل قبله. وهذا غيرُ لازمٍ لِما تقدَّم لك من وضوحِ المعنى مع جَعْلِها ناهيةً.