التفاسير

< >
عرض

فَلَمَّا جَآءَهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي ٱلنَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
٨
-النمل

الدر المصون

قوله: { نُودِيَ }: في القائمِ مَقامَ الفاعلِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه ضميرُ موسى، وهو الظاهرُ. وفي "أَنْ" حينئذٍ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّها المُفَسِّرَةُ لتقدُّمِ ما هو بمعنىٰ القول. والثاني: أنها الناصبةُ للمضارعِ، ولكنْ وُصِلَتْ هنا بالماضي. وتقدَّم تحقيقُ ذلك، وذلك على إسقاطِ الخافضِ أي: نُوْدي موسى بأَنْ بُورِك. الثالث: أنها المخففةُ، واسمُها ضميرُ الشأنِ، و"بُوْرِك" خبرُها، ولم يَحْتَجْ هنا إلى فاصلٍ؛ لأنه دعاءٌ، وقد تقدَّم نحوُه في النور في قوله: { أَنْ غَضِب } [النور: 9] في قراءته فعلاً ماضياً.
قال الزمخشري: "فإن قلتَ: هل يجوزُ أن تكونَ المخففةَ من الثقيلةِ، والتقدير: بأنَّه بُورك. والضميرُ ضميرُ الشأنِ والقصةِ؟ قلت: لا لأنه لا بُدَّ مِنْ "قد". فإنْ قلتَ: فعلى إضمارِها؟ قلت: لا يَصِحُّ لأنها علامةٌ ولا تُحْذَفُ". انتهى. فمنع أَنْ تكونَ مخففةً لِما ذًُكِر، وهذا بناءً منه على أَنَّ "بُوْرِكَ" خبرٌ لا دعاءٌ. أمَّا إذا قُلْنا: إنه دعاءٌ كما تقدَّم في النورِ فلا حاجةَ إلى الفاصلِ كما تقدَّم. وقد تقدَّم فيه استشكالٌ: وهو أنَّ الطلبَ لا يَقَعُ خبراً في هذا البابِ فكيف وَقَعَ هذا خبراً لـ"أَنْ" المخففةِ وهو دُعاءٌ؟
الثاني: من الأوجهِ الأُوَلِ: أنَّ القائمَ مَقامَ الفاعلِ نفسُ "أَنْ بُوْرِكَ" على حَذْفِ حرفِ الجرِّ أي: بأَنْ بُوْرِكَ. و"أَنْ" حينئذٍ: إمَّا ناصبةٌ في الأصلِ، وإمَّا مخففةٌ.
الثالث: أنه ضميرُ المصدرِ المفهومِ من الفعلِ أي: نُودي النداءُ، ثم فُسِّر بما بعدَه. ومثلُه
{ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ ٱلآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ } [يوسف: 35].
قوله: { مَن فِي ٱلنَّارِ } "مَنْ" قائمٌ مقامَ الفاعلِ لـ"بُوْرك". وبارَكَ يتعدَّىٰ بنفسِه، ولذلك بُني للمفعولِ. يقال: بارَكَكَ اللهُ، وبارَكَ عليكَ، وبارَكَ فيك، وبارك لكَ، وقال الشاعر:

3539ـ فَبُوْرِكْتَ مَوْلُوداً وبُوْرِكْتَ ناشِئاً وبُوْرِكْتَ عند الشِّيْب إذ أَنْتَ أَشْيَبُ

وقال عبدُ الله بن الزبير:

3540ـ فبُوْرِكَ في بَنِيْكَ وفي بَنيهمْ إذا ذُكِروا ونحن لك الفِداءُ

وقال آخر:

3541ـ بُوْرِك الميِّتُ الغرِيبُ كما بُوْرِكَ نَضْحُ الرُّمانِّ والزيتونِ

والمرادُ بـ"مَنْ": إمَّا الباري تعالى، وهو على حَذْفٍ مضافٍ أي: مَنْ قُدْرَتُه وسُلْطانه في النار. وقيل: المرادُ به موسىٰ والملائكةُ، وكذلك بمَنْ حولَها. وقيل: المرادُ بـ"مَنْ" غيرُ العقلاءِ وهو النورُ والأمكنةُ التي حولَها.
قوله: { وَسُبْحَانَ ٱللَّهِ } فيه أوجهٌ، أحدها: أنَّه من تتمَّةِ النداءِ أي: نُوْدِي بالبركةِ وتَنْزِيْهِ ربِّ العزَّةِ. أي: نُودي بمجموعِ الأمرَيْنِ. الثاني: أنه من كلامِ اللهِ تعالىٰ مخاطِباً لنبيِّنا محمدٍ عليه الصلاةُ والسلامُ، وهو على هذا اعتراضُ بين أثناءِ القصةِ. الثالث: أنَّ معناه: وبُوْرِك مَنْ سَبَّح اللهَ. يعني أنه حَذَفَ "مَنْ" وصلَتها وأَبْقَىٰ معمولَ الصلةِ إذ التقدير: بُوْرِكَ مَنْ في النار ومَنْ حَوْلَها، ومَنْ قال: سبحان الله و"سُبْحانَ" في الحقيقةِ ليس معمولاً لـ"قال" بل لفعلٍ مِنْ لفظِه، وذلك الفعلُ هو المنصوبُ بالقول.