التفاسير

< >
عرض

كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ
١١
-آل عمران

الدر المصون

قوله تعالى: { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ }: في هذه الكافِ وجهان، أحدُهما: أنها في محلِّ رفعٍ خبراً لمبتدأ مضمرٍ تقديرُه: دَأْبُهم في ذلك كدأبِ آلِ فرعون، وبه بدأ الزمخشري وابن عطية.
والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ وفي الناصب لها تسعةُ أقوال: أحدها: أنها نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، والعاملُ فيه "كفروا" تقديره: "إنَّ الذين كفروا كفراً كدأبِ آل فرعون"، أي: كعادَتِهم في الكفر، وهو رأيُ الفراء. وهذا القولُ مردودٌ بأنه قد أَخْبَرَ عن الموصول قبل تمام صلتِه، فَلَزِمَ الفصلَ بين أبعاضِ الصلةِ بالأجنبي، وهو لا يجوزُ. والثاني: أنه منصوبٌ بكفروا، لكنْ مقدَّراً لدلالةِ هذا الملفوظِ به عليه. الثالث: أن الناصبَ مقدرٌ مدلولٌ عليه بقوله: "لَنْ تُغني" أي بَطَلَ انتفاعُهم بالأموال والأولادِ كعادةِ آل فرعون، في ذلك. الرابع: أنه منصوبٌ بلفظ "وقود" أي: تُوقد النارُ بهم كما توقد بآل فرعون، كما تقول: "إنك لتظلم الناس كدأبِ أبيك" تريد: كظلمِ أبيك، قاله الزمخشري. وفيه نظرٌ لأن الوَقودَ على القراءةِ المشهورةِ الأظهرُ فيه أنه اسمٌ لما يُوْقَدُ به، وإذا كان اسماً فلا عملَ له. فإنْ قيل: إنه مصدرٌ أو على قراءةِ الحسن صَحَّ. الخامس: أنه منصوبٌ بنفس "لن تُغْني" أي: لن تُغْنِي عنهم مثلَ ما لم تَغْنِ عن أولئك، ذَكَره الزمخشري، وضَعَّفه الشيخ بلزوم الفصلِ بين العامل ومعمولِه بالجملةِ التي هي قوله: { وَأُولَـٰئِكَ هُمْ وَقُودُ ٱلنَّارِ }، قال: "على أيّ التقديرين اللذين قَدَّرْناهما فيها من أن تكونَ معطوفةً على خبر "إنَّ" أو على الجملةِ المؤكَّدةِ بإنَّ. قال: "فإنْ جَعَلْتهَا اعتراضيةً ـ وهو بعيدٌ ـ جاز ما قاله الزمخشري, السادس: أن يكونَ العاملُ فيها فعلاً مقدراً مدلولاً عليه بلفظِ الوقودِ تقديرُه: يُوقد بهم كعادةِ آل فِرعون، ويكون التشبيهُ في نفسِ الاحتراق، قاله ابن عطية. السابع: أَنَّ العاملَ "يُعَذَّبون" كعادة آل فرعون، يَدُلُّ عليه سياقُ اكلام. الثامن: أنه منصوبٌ بـ:"كَذَّبوا بآياتنا"، والضميرُ في "كَذَّبوا" على هذا لكفار مكة وغيرِهم من معاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم أي: كَذَّبوا تكذيباً كعادةِ آل فِرعون في ذلك التكذيبِ. التاسع: أنَّ العاملَ فيه قوله { فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ } أي: فأخذهم الله أَخْذاً كأخذِه آلَ فرعون، وهذا مردودٌ، فإنَّ ما بعد الفاءِ العاطفةِ لا يَعْمل فيها قبلها، لا يجوزُ: "قُمْتُ زيداً فضربْتُ" وأما "زيداً فاضربْ" فقد تقدَّم الكلامُ عليه في البقرة. وقد حكى بعض النحويين عن الكوفيين أنهم يُجيزون تقديمَ المعمولِ على حرف العطف فعلى هذا يجوز هذا القول.
وفي كلام الزمخشري سهوٌ فإنه قال: "ويجوزُ أَنْ ينتصِبَ مَحَلُّ الكاف بـ"لن تُغْني" أو "بخالدون" أي: لن تُغْنيَ عنهم مثلَ ما لم تُغْنِ عن أولئك، أو هم فيها خالدون كما يَخْلُدون"، وليس في لفظ الآية الكريمة "خالدون" إنما نظْمُ القرآن: { وَأُولَـٰئِكَ هُمْ وَقُودُ ٱلنَّارِ } ويَبْعُدُ أَنْ يُقال أراد "خالدون" مقدَّراً يَدُلُّ عليه سياقُ الكلام.
قوله: { وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } يجوزُ أن يكونَ مجروراً نَسَقَاً على آل فرعون وأن يكونَ مرفوعاً على الابتداء، والخبرُ قولُه بعدَ ذلك: { كَذَّبُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ } وهذان الاحتمالان جائزان مطلقاً. وخَصَّ أبو البقاء جوازَ الرفعِ بكونِ الكافِ في محلِّ الرفعِ فقال: "فعلى هذا ـ أي على كونِها مرفوعةَ المحلِّ خبراً لمبتدأٍ مضمرٍ ـ يجوزُ في { وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } وجهان أحدُهما: هو جرُّ بالعطفِ/ أيضاً، و"كَذَّبوا" في موضعِ الحالِ، و"قد" معه مضمرةٌ، ويجوزُ أن يكونَ مستأنفاً لا موضعَ له، ذُكِر لشَرْحِ حالِهم، والوجهُ الآخرُ أن يكونَ الكلامُ تَمَّ على فرعون و"الذين مِنْ قبلِهم مبتدأُ، وكَذَبوا خبرُه".
والدَّأْبُ: العادَةُ، يقال: دَأَبَ يَدْأَبُ أي: واظبَ ولازَم، ومنه: "دَأَبا" أي: مداومةً. وقال امرؤ القيس:

1184ـ كدَأْبِك من أمِّ الحُوَيْرث قبلها وجارتِها أمِّ الرَّبابِ بمَأْسَلِ

ويقال: دَأَبَ يدأَبُ دؤُوبا، قال زهير:

1185ـ لأرتَحِلَنْ بالفجر ثم لأدْأَبَنْ إلى الليلِ إلاَّ أن يُعَرِّجَني طِفْلُ

وقال الواحدي: الدأَبُ: الإِجهاد والتعبُ، يقال: سار فلان يومه كلَّه يدأَبُ فيه فهو دائِبٌ، أي: أُجْهِدَ في سيره، هذا أصلُه في اللغة، ثم يصير الدأبُ عبارةً عن الحالِ والشأن والعادةِ، لاشتمالِ العمل والجُهْدِ على هذا كله، ولذا قال الزمخشري قال: "[الدأب]: مصدرُ دَأَب في العملِ إذا كَدَحَ فيه، فَوُضِعَ مََوْضِعَ ما عليه الإِنسان من شأنِه وحاله" ويقال: دَأْب ودَأَب، بسكون الهمزة وفتحها، وهما لغتان في المصدر كالضَّأْن والضَّأَن، والمَعْز والمَعَز. وقرأ حفص "سَبْعَ سنينَ دَأَبا"، بالفتح، قال الفراء: "والعربُ تُثَقِّل ما كان ثانيه من حروفِ الحلق كالنَّعْل والنَّعَل والنَّهْر والنهَر والشَّأْم والشَّأَم" وأنشد:

1186ـ قد سار شرقيُّهم حتى أَتوا سَبَأً وانساح غربيُّهم حتى هوى الشَّأَما

قوله: { كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } قد تقدَّم أنه يجوزُ أن يكونَ خبراً عن "الذين" إنْ قيل: إنه مبتدأٌ، وإنْ لم يكن مبتدأ فقد تقدَّم أيضاً أنه يكون بياناً للدأب وتفسيراً له كأنه قيل: ما فَعَلوا وما فُعِل بهم؟ فقيل: كَذَّبوا بآياتنا، فهو جوابُ سؤالٍ مقدر، وأن يكونَ حالاً. وفي قوله "بآياتنا" التفاتٌ؛ لأنَّ قبله "من الله" وهو اسمٌ ظاهر. والباءُ في "بذنوبهم" يجوز أن تكونَ للسببيةِ أي: أَخَذَهم بسبب ما اجترموا، وأن تكونَ للحال أي: أخذهم ملتبسين بالذنوبِ غيرَ تائبين منها.
[والذَّنْبُ في الأصل: التِلْوُ والتابعُ، وسُمِّيَتِ الجريمة ذنباً] لأنها يتلو ـ أي يتبع ـ عقابُها فاعلَها؛ والذَّنُوب: الدَّلْو لأنها تتلو الحبلَ في الجَذْب، وأصلُ ذلك من ذَنَبِ الحيوان لأنه يَذْنُبُه أي يَتْلو يقال: ذَنَبه يَذْنُبُه ذَنْباً أي: تَبِعه.
قوله: { شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } كقوله:
{ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } [البقرة: 202] أي: شديدٌ عقابهُ، وقد تقدَّم تحقيقه. وقد اشتملت هذه الآيات من أولِ السورةِ إلى ههنا أنواعاً من علمِ المعاني والبيان والبديع لا تَخْفى على متأمِّلها.