التفاسير

< >
عرض

وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ
١٢٦
-آل عمران

الدر المصون

قوله تعالى: { إِلاَّ بُشْرَىٰ }: فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أنه مفعول من أجله وهو استثناء مفرغ، إذ التقدير: وما جعله لشيء من الأشياء إلا للبشرى، وشروطُ نصبِه موجودةٌ وهي اتحاد الفاعل والزمان وكونُه مصدراً سيق للعلة. والثاني: أنه مفعولٌ ثان لجَعَل على أنها تصييريةٌ. والثالث: أنها بدلٌ من الهاءِ في "جَعَله" قاله الحوفي، وجعل الهاءَ عائدةً على الوعدِ بالمَدَدِ. والبُشْرى مصدرٌ على فُعْلى كالرُّجْعَى.
قوله: { وَلِتَطْمَئِنَّ } فيه وجهان، أحدُهما: أنه معطوفٌ على "بشرى" هذا إذا جعلناها مفعولاً من أجله، وإنما جُرَّت باللام لاختلالِ شرطٍ من شروطِ النصب وهو عَدَمُ اتحاد الفاعل، فإنَّ فاعلَ الجَعْل هو الله تعالى وفاعلَ الاطمئان القلوبُ، فلذلك نُصِب المعطوفُ عليه لاستكمال الشروط، وجُرَّ المعطوفُ باللام لاختلالِ شرطه، وقد تقدَّم، والتقدير: وما جعله إلا للبشرى وللطمأنينة. والثاني: أنها متعلقةٌ بمحذوف ِأي: ولتطمئن قلوبُكم فَعَلَ ذلك، أو كانَ كيتَ وكَيتَ.
وقال الشيخ: "وتطمئنَّ منصوبٌ بإضمار "أَنْ" بعد لام "كي" فهو من عطفِ الاسم على تَوَهُّم موضِع اسم آخر". ثم نَقَل عن ابن عطية أنه قال: "واللام في "ولتطمئن" متعلقةٌ بفعلٍ مضمر يَدُلُّ عليه "جعله""، ومعنى الآية: "وما كان هذا الإمداد إلا لتستبشروا به وتطمئنَّ به قلوبكم". قال الشيخ: "وكأنه رأى أنه لا يمكن عنده أَنْ يُعْطَف "ولتطمئن" على "بشرى" على الموضع؛ لأنَّ مِنْ شرطِ العطف على الموضع عند أصحابنا أن يكون ثَمَّ مُحْرِزٌ للموضع، ولا مُحْرزَ هنا، لأنَّ عاملَ الجر مفقود، ومَنْ لم يشترطِ المُحْرز فيجوِّز ذلك، ويكونُ من باب العطف على التوهم". قلت: وقد جعل بعضُهم الواوَ في "ولتطمئن" زائدةً وهو لائقٌ بمذهب الأخفش، وعلى هذا فتتعلَّق اللامُ بالبشرى، أي: إن البُشْرى علةٌ للجَعْل، والطمأنينة علةٌ للبُشْرى فهي علة العلة.
وقال الفخر الرازي: "في ذِكْر الإِمدادِ مطلوبان، أحدهما: إدخالُ السرور في قلوبِهم وهو المرادُ بقوله { إِلاَّ بُشْرَىٰ } والثاني: حصولُ الطمأنينة بالنصرِ فلا يَجْبُنوا، وهذا هو المقصود الأصلي ففرَّق بين هاتين العبارتين تنبيهاً على حصول التفاوت بين الأمرين، فعَطَفَ الفعلَ على الاسم، ولَمَّا كان الأقوى حصولَ الطمأنينة أَدْخَلَ حرفَ التعليل". قال الشيخ: "ويناقَشُ في قوله "عَطْفُ الفعلِ على الاسم" إذ ليس من عطف الفعل/ على الاسم، وفي قوله: "أدخلَ حرفَ التعليل" وليس ذلك كما ذكر". انتهى. قلت: إنْ عنى الشيخ أنه لم يُدْخِلْ حرفَ التعليل البتة فهوغيرُ مُسَلَّم ولا يمكنُ إنكارُه، وإنْ عَنَى أنه لم يُدْخِلْه بالمعنى الذي قصده الإِمام فيسهُلُ.
وقال الجرجاني في "نَظْمه": "هذا على تأويل: وما جعله الله إلا ليبشِّركم ولتطمئِنَّ، وَمَنْ أجازَ إقحامَ الواو وهو مذهب الكوفيين جعلها مقحمةً في "ولتطمئِنَّ" فيكونُ التقدير: وما جعله الله إلاَّ بُشْرى لكم لتطمئن قلوبكم به.
والضميران في قوله: "وما "جعله" و"به" يعودان على الإِمداد المفهومِ من الفعل المتقدم وهو قوله: "يُمْدِدْكم" وقيل: يعودان على النصر، وقيل: على التسويم. وقيل: على التنزيل. وقيل: على العَدَد، وقيل: على الوعد.
وفي هذه الآية قال: "لكم" وتركها في سورة الأنفال لأن تيك مختصرُ هذه، وكأنَّ الإِطناب هنا أَوْلى، لأن القصة مُكَمِّلةٌ هنا فناسب إيناسُهم بالخطابِ المواجَهِ. وأخَّر هنا "به" وقَدَّم في سورة الأنفال؛ لأنَّ الخطابَ هنا موجودٌ في "لكم" فَأَتْبَعَ الخطابَ الخطابَ. وهنا جاء بالصفتين تابعتين في قوله: { ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ } وجاء بهما في جملةٍ مستأنفةٍ في الأنفال في قوله:
{ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [الآية: 10] لأنه لمَّا خاطبهم هنا حَسُن تعجيلُ بِشارتهم بأنه عزيزٌ حكيم أي: لا يغالَبُ وأنَّ أفعالَه كلها متقنةٌ حكمةٌ وصوابٌ.