التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ ٱلْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ
١٤٣
-آل عمران

الدر المصون

قوله تعالى: { كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ }: قرأ البزي بخلاف عنه بتشديد تاء "تَّمَنَّوْنَ"، ولا يمكنُ ذلك إلا في الوصلِ، وقاعدتُه أنه يَصِلُ ميم الجمعِ بواوٍ، وقد تقدَّم تحريرُ هذا عند قوله: { وَلاَ تَيَمَّمُواْ ٱلْخَبِيثَ } [البقرة: 267].
والضميرُ في "تَلْقَوه" فيه وجهان، أظهرُهما: عَوْدُه على الموت، والثاني: عَوْدُه على العدوِّ، وإنْ لم يَجْرِ له ذِكْرٌ لدلالةِ الحالِ عليه.
والجمهور على كسر اللام من "قبل"؛ لأنها معربةٌ لإِضافتِها إلى أَنْ وما في حَيِّزها أي: مِنْ قبل لقائِه. وقرأ مجاهد بن جبر: "من قبلُ" بضم اللام وقطعها عن الإِضافة كقوله:
{ لِلَّهِ ٱلأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ } [الروم: 4]، وعلى هذا فـ"أَنْ" وما في حَيِّزها في محلِّ نصب على أنها بدلُ اشتمال من الموت أي: تَمَنَّون لقاء الموتِ كقولك: "رَهَبْتُ العدوَّ لقاءَه". وقرأ الزهري والنخعي: "تُلاقُوه" ومعناه معنى "تَلْقَوه" لأن "لَقِي" يستدعي أن يكونَ بين اثنين عادةً وإنْ لم يكن على المفاعلة.
قوله: { فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ } الظاهرُ أن الرؤيةَ بصريةٌ فتكفي بمفعول واحد، وجَوَّزوا أن تكونَ عِلْمية فتحتاجَ إلى مفعول ثان هو محذوف أي: فقد علمتموه حاضراً أي: الموت، إلاَّ أنَّ حَذْفَ أحد المفعولين في باب "ظن" ليس بالسهل، حتى إنَّ بعضَهم يَخُصُّه بالضرورة كقول عنترة:

1451ـ وَلَقَدْ نَزَلْتِ فلا تَظُنِّي غيرَه مِنِّي بمنزلةِ المُحَبِّ المُكْرَمِ

أي: فلا تَظُنِّي غيرَه واقعاً مني.
قوله: { وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } يجوزُ أَنْ تكونَ حاليةً، وهي حالٌ مؤكدة رَفَعَتْ ما تحتملُه الرؤيةُ من المجاز أو الاشتراك، أي: بينهما وبين رؤية القلب، ويجوزُ أن تكونَ مستأنفةً، بمعنى: وأنتم تنظرون في فِعْلِكم الآن بعد انقضاءِ الحرب هل وَفَّيْتُم أو خالَفتم؟ وقال ابن الأنباري: "رأيتموه" أي: قابَلْتُموه وأنتم تنظُرون بعيونكم، ولهذه العلةِ ذَكَرَ النظرَ بعد الرؤية حين اختلف معناهما، لأنَّ الأولَ بمعنى المقابلة والمواجهة، والثاني: بمعنى رؤيةِ العين" وهذا غيرُ معروفٍ عند أهل اللسان، أعني إطلاقَ الرؤيةِ على المقابلة والمواجهة، وعلى تقدير صحتِه فتكونُ الجملةُ من قوله: { وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } جملةً حاليةً مبينِّة لا مؤكدةً؛ لأنها أفادَتْ معنىً زائداً على معنى عاملها، ويجوز أن يُقَدَّر لـ"ينظرون" مفعولاً، ويجوز ألاَّ يُقَدَّر، إذ المعنى: وأنتم من أهل النظر. واللهُ تعالى أعلمُ ولله الحمد والمِنَّة/.