التفاسير

< >
عرض

كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدْخِلَ ٱلْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ ٱلْغُرُورِ
١٨٥
-آل عمران

الدر المصون

قوله تعالى: { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ }: مبتدأٌ وخبر، وسَوَّغَ الابتداءَ بالنكرةِ العمومُ أو الإِضافةُ. والجمهورُ على { ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ }. بخفض " الموت" بالإِضافة، وهي إضافةُ غيرُ محضةٍ لأنَّها في نيةِ الانفصالِ. وقرأ اليزيدي: "ذائقةٌ الموتَ" بالتنوين والنصبِ في "الموت" على الأصل. وقرأ الأعمش بعدمِ التنوين ونصبِ "الموت"، وذلك على حذف التنوين لالتقاء الساكنين وإرادته، وهو كقول الآخر:

1504ـ فألفَيْتُه غيرَ مُسْتَغْتِبٍ ولا ذاكرَ اللهَ إلا قليلا

بنصب الجلالة، وقراءة من قرأ: { قل هو الله أحدُ اللهُ } بحذف التنوين من "أحد" لالتقاء الساكنين.
ونقل أبو البقاء فيها قراءةً غريبةً وتخريجاً غريباً قال: "ويُقْرأ أيضاً شاذاً: { ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتُ } على جعل الهاء ضمير "كل" على اللفظ، وهو مبتدأ أو خبر". انتهى. وإذا صَحَّتْ هذه قراءةً فيكونُ "كل" مبتدأً، و"ذائقُةُ" خبرٌ مقدمٌ، و"الموتُ" مبتدأ مؤخر، والجملة خبر "كل"، وأضيف "ذائق" إلى ضمير "كل" باعتبار لفظها، ويكون هذا من باب القلب في الكلام؛ لأنَّ النفسَ هي التي تذوقُ الموتَ وليس الموتُ يذوقُها، وهنا جَعَلَ الموتَ هو الذي يذوق النفس قلباً للكلام لفهم المعنى، كقولهم: "عَرَضْتُ الناقة على الحوض"، ومنه:
{ وَيَوْمَ يُعْرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى ٱلنَّارِ } [الأحقاف: 20] و"أَدْخَلْت القَلنسوة في رأسي". وقوله:

1505ـ مثلُ القنافِذِ هَدَّاجون قد بلغَتْ نجرانُ أو بُلِّغَتْ سواءِتهمْ هَجَرُ

الأصلُ: عَرَضْتُ الحوض على الناقةِ، ويَوْم تُعْرَضُ النارُ عليهم، وأدخلت رأسي في القَلَنْسوة، وبُلِّغَتْ سوءاتُهم هجراً، فَقَلب، وسيأتي خلاف الناس في القلب بأشبعَ من هذا عند موضعِه، وكان أبو البقاء قد قَدَّم قبل هذا أنَّ التأنيثَ في "ذائقة" إنما هو باعتبار معنى "كل"، وقال: "لأنَّ كلَّ نفسٍ نفوسُ، ولو ذُكِّر على لفظِ "كل" جاز"، يعني أنه لو قيل: "كلُّ نفس ذائقٌ كذا" جاز، وقد تقدَّم لك أو البقرةِ أنه يَجِبُ اعتبارُ لفظِ ما تُضاف إليه "كل" إذا كان نكرةً، ولا يجوزُ أن تَعْتَبِر "كلَ"، وتحقيقُ هذه المسألةِ هناك.
قوله: { وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ } "ما" كافةٌ لـ "إنَّ" عن العمل وقد تقدَّم مثلُها. وقال مكي: "ولا يجوزُ أَنْ تكونَ "ما" بمعنى الذي لأنه يلزم رفعُ "أجوركم"، ولم يَقْرأ به أحدٌ؛ لأنَّه يصير التقديرُ: "وإنَّ الذي تُوَفَّوْنه أجورُكم، كقولك: "إنَّ الذي أكرمتموه عمروٌ" وأيضاً فإنك تفرِّق بين الصلةِ والموصولِ بخبر الابتداء" يعني لو كانت "ما" موصولةً لكانت اسمَ "إنَّ" فيلزمُ حينئذٍ رفعُ "أجوركم" على خبرها كقولِه تعالى:
{ إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ } [طه: 69]، فـ"ما" هنا يجوزُ أن تكونَ بمعنى الذي أو مصدريةً تقديرُه: إنَّ الذي صَنَعوه أو: إنَّ صُنْعَهم، ولذلك رُفِع "كيد" خبراً لها. وقولُه: "وأيضاً فإنَّك تفرِّقُ" يعني أن "يوم القيامة" متعلِّقٌ بـ"تُوَفَّوْن" فهو من تمامِ الصلة، فلو كانت "ما" موصولةً لفَصَلْتَ بالخبرِ الذي هو "أجوركم" بين أبعاضِ الصلةِ التي هي الفعلُ ومعموله، ولا يُخْبَر عن موصولٍ إلا بعد تمام صلتِه، وهذا وإنْ كانَ من الواضحاتِ إلا أنَّ فيه تنبيهاً على أصولِ العلمِ.
وأدغم أبو عمرو الحاءَ من "زُحْزِحَ" في العينِ هنا خاصة قالوا: لطول الكلمةِ وتكريرِ الحاء، دونَ قولِه:
{ ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ } [المائدة: 3] { { ٱلْمَسِيحُ عِيسَى } [آل عمران: 45] ونُقِل عنه الإِدغامُ مطلقاً وعدمُه مطلقاً، والنحويون يمنعون ذلك، ولا يُجيزونه إلا بعد أنْ يَقْلبوا العينَ حاءً، ويُدْغِمون الحاءَ فيها قالوا: "لأنَّ الأقوى لا يُدْغَمُ في الأضعفِ، وهذا عكسُ الإِدغامِ، لأنَّ الإِدغامَ أَنْ تَقْلِبَ فيه الأولَ للثاني، إلا في مسألتين إحداهما: هذه، والثانية الحاء في الهاء نحو: "امدحْ هذا" لا تُقْلَبُ الهاء حاء أيضاً"، ولذلك طَعَنَ بعضُهم على قراءةِ أبي عمرو، ولا يُلْتَفت إليه.
والغُرور: [يجوزُ أَنْ يكون مصدراً وأَنْ يكونَ] جمعاً. وقرأ عبد الله بفتح الغين، وفُسِّر بالشيطان، ويجوزُ أَنْ يكونَ فَعولاً بمعنى مَفْعول أي: متاع المغرور، أي: المَخْدوع، وأصل الغَرَر: الخَدْع.