التفاسير

< >
عرض

هٰأَنْتُمْ هَؤُلاۤءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ
٦٦
-آل عمران

الدر المصون

قوله تعالى: { هٰأَنْتُمْ هَؤُلاۤءِ }: الكلامُ على هذه الآيةِ فيه صعوبةٌ وإشكالٌ فيُحتاج من أجلِ ذلك إلى بَسْطٍ في العبارة، ولنبدأ أولاً بضبط قراءاتِها وتفسيرِ معناها، فإنَّ الإِعراب متوقف على ذلك، فأقولُ: القُرَّاء في ذلك على أربع مراتب، المرتبة الأولى للكوفيين، وابن عامر والبزي عن ابن كثير: "ها أنتم" بألف بعد الهاء وهمزةٍ مخففة بعدها. المرتبة الثانية لأبي عمرو وقالون عن نافع: بألف بعد الهاء وهمزةٍ مسهلة بينَ بينَ بعدها. المرتبة الثالثة لورش وله وجهان، أحدهما: بهمزة مسهلة بينَ بينَ بعد الهاء دونَ ألفٍ بينهما، الثاني: بألف صريحة بعد الهاء من غير همز بالكلية. المرتبة الرابعة: لقنبل بهمزةٍ محققة بعد الهاء دون ألف.
وأمَّا المعنى: فقال قتادة والسدي والربيع وجماعة كثيرة: إن الذي لهم به علم هو دينُهم الذي وجدوه في كتبهم وثبتَتْ صحتُه لديهم، والذي ليس لهم به علمٌ هو شريعةُ إبراهيم وما كان عليه مِمَّا ليس في كتبهم، ولا جاءَتْ به إليهم رسلُهم، ولا كانوا معاصِريه فَيَعْلَمُون دينه، فجدالُهم فيه مجردُ عنادٍ ومكابرة. وقيل: الذي لهم به علم أمر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لأنه موجودٌ عندهم في كتبِهم بنَعْتِه، والذي ليس لهم به علم هو أمر إبراهيم عليه السلام. وقال الزمخشري: "يعني ها أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى، وبيانُ حماقتكم وقلةِ عقولكم أنكم جادلم فيما لكم به علمٌ مِمَّا نطق به التوراة والإِنجيل، فلِمَ تُحاجُّونَ فيما ليس لكم به علمٌ ولا نَطَق به كتابكم مِنْ دينِ إبراهيم؟".
واختلف الناسُ في هذه الهاءِ فمنهم مَنْ قال: إنها ها التي للتنبيه الداخلةِ على أسماء الإِشارة، وقد كَثُرَ الفصلُ بينها وبين أسماء الإِشارة بالضمائر المرفوعةِ المنفصلة نحو: ها أنت ذا قائماً، وها نحن وها هم هؤلاء قائمون، وقد تُعاد مع الإِشارة بعد دخولها على الضمائر توكيداً كهذه الآية، ويَقِلُّ الفصلُ بغير ذلك كقوله:

1322ـ تَعَلَّمَـنْ هالعمـرُ الله ذا قَسَمـــاً قاقدِرْ بذَرْعِك وانظرْ أينَ تنْسَلِكُ

وقال النابغة:

1323ـ ها إنَّ تا عِذْرَةٌ إن لا تكن نَفَعَتْ فإنَّ صاحبَها قد تاهَ في البلد

ومنهِم مَنْ قال: إنها مبدلةٌ من همزةِ استفهام، والأصلُ: أأنتم، وهو استفهامُ إنكار، وقد كَثُر إبدال الهمزةِ هاءً وإن لم ينقس، قالوا: هَرَقْت وهَرَحْت وهَبَرْت، وهذا قول أبي عمرو بن العلاء وأبي الحسن الأخفش وجماعة، واستحسنه أبو جعفر، وفيه نظرٌ من حيث إنه لم يثبت ذلك في همزة الاستفهام، لم يُسْمع منهم: هَتَضْرِبُ زيداً بمعنى: أتضرب زيداً. وإذا لم يثبت ذلك فكيف يُحمل هذا عليه؟ هذا معنى ما اعترض به الشيخ على هؤلاء الأئمة، وإذا ثَبَتَ إبدال الهمزة هاءً هانَ الأمر، ولا نظرَ إلى كونِها همزةَ استفهام ولا غَيرها.
وهذا ـ أعني كونَها همزةَ استفهام أُبدلت هاءَ ـ ظاهرٌ على قراءة قنبل وورش لأنهما لا يُدْخِلان ألفاً بين الهاء وهمزة "أنتم" لأنَّ إِدخالَ الألف إنما كان لاستثقال توالي همزتين، فلمَّا أُبْدِلت الهمزةُ هاءً زال الثقل لفظاً، فلم يُحْتج إلى ألفٍ فاصلة، وقد جاءَ إبدالُ همزة الاستفهام هاءً قال:

1324ـ وأتَى صواحِبُها يَقُلْنَ: هذا الذي مَنَحَ المودَة غيرَنا وجَفانا

يريد: أذا الذي. ويَضْعُفُ جَعْلُها على قراءتهما ها التي للتنبيه لأنه لم يُحْفظ حَذْفُ ألفها، لا يقال: "هذا زيد" بحذفِ ألف "ها" كذا قيل، قلت: وقد حَذَفَها ابن عامر في ثلاثة مواضع، إلا أنه ضم الهاء الباقية بعد حذف الألف، فقرأ في الوصل: { يٰأَيُّهَ ٱلسَّاحِرُ } [الزخرف: 49] و { أَيُّهَ ٱلْمُؤْمِنُونَ } [الآية: 31] في النور و { أَيُّهَ ٱلثَّقَلاَنِ } [الآية: 31] في الرحمن، لكن إنما فَعَل ذلك إتباعاً للرسم لأنَّ الألف حُذِفَتْ في مرسوم مصحف الشام في هذه الثلاثة، وعلى الجملة فقد ثَبَت حَذْفُ ألف "ها" التي للتنبيه.
وأَمَّا مَنْ أثبت الألف بين الهاء وبين همزة "أنتم" فالظاهر أن "ها" للتنبيه، ويَضْعُفُ أَنْ تكونَ بدلاً من همزةِ الاستفهامِ لِما تقدَّم من أَنَّ الألف إنما تدخلُ لأجلِ الثقل، والثقل قد زال بإبدالِ الهمزة هاء. وقال بعضُهم: "الذي يقتضيه النظرُ أَنْ تكونَ "ها" في قراءة الكوفيين والبزي وابن ذكوان للتنبيه، لأنَّ الألفَ في قراءتِهم ثابتةٌ، وليس من مذهبهم أن يَفْصِلوا بين الهمزتين بألفٍ، وأن تكونَ في قراءة قنبل وورش مبدلةً من همزة، لأن قنبلاً يَقْرأ بهمزة بعد الهاء، ولو كانت "ها" للتنبيه لأتى بألف بعد الهاء، وإنما لم يُسَهِّل الهمزة كما سَهَّلها في "أأنذرتهم" ونحوِه لأن إبدال الأولى هاء أغناه عن ذلك، ولأن ورشاً فَعَل فيه ما فعل في "أأنذرتهم" ونحوه من تسهيلِ الهمزة وتَرْكِ إدخال الألف، وكأن الوجهَ في قراءتِه بالألف الحَمْلُ على البدلِ كالوجهِ الثاني في "أأنذرتهم" ونحوه.
ومَنْ عدا هؤلاء المذكورين ـ وهم أبو عمرو وقالون وهشام ـ يُحْتمل أَنْ تكونَ "ها" للتنبيه، وأَنْ تكونَ بدلاً من همزةِ الاستفهام، أمَّا الوجهُ الأول فلأن "ها" التنبيه دَخَلَتْ على "أنتم"، فحقق هشام الهمزةَ كما حَقَّقها في "هؤلاء" ونحوه، وخفَّفها قالون وأبو عمرو لتوسُّطها بدخول حرف التنبيه عليها، وتخفيفُ الهمزة المتوسطة قوي. وأمّا الوجهُ الثاني فأَنْ تكونَ الهاءُ بدلاً من همزةِ الاستفهام لأنهم يَفْصِلون بين الهمزتين بألف، فيكونُ أبو عمرو وقالون على أصلهما في إدخال الألف والتسهيل، وهشام على أصله في إدخال الألف والتحقيق، ولم يُقرأْ بالوجه الثاني وهو التسهيل، لأن إبدالَ الهمزة الأولى هاء مُغْنٍ عن ذلك.
وقال آخرون: "إنه يجوز أن تكون "ها" في قراءة الجميع مبدلةً من همزة، وأن تكون التي للتنبيه دخلت على "أنتم"، ذَكَرَ ذلك أبو علي الفارسي والمهدوي ومكي في آخرين. فأمَّا احتمال هذين الوجهين في قراءة أبي عمرو وقالون عن نافع، وهشام عن ابن عامر فقد تقدَّم توجيهه وبيانه، وأمَّا احتمالُهما في قراءة غيرهم فأقول: أمَّا الكوفيون والبزي وابن ذكوان فقد تقدَّم توجيهُ كونِ "ها" عندهم للتنبيه، وأمَّا توجيهُ كونها بدلاً من الهمزة عندهم فأَنْ يكون الأصل: أأنتم فَفَصلوا بالألف على لغة من قال:

1325ـ ...................... ........ أاأنت أَمْ أُمُّ سالمِ

ولم يَعْبَؤوا بإبدال الهمزة الأولى هاءً، لكون البدل فيها عارضاً، وهؤلاء وإنْ لم يكن من مذهبهم الفصلُ، ولكنهم جمعوا بين اللغتين. وأما توجيهُ كون "ها" بدلاً من الهمزة في قراءة قنبل وورش فقد تقدم. وأما توجيه كونِها للتنبيه في قراءتهما ـ وإنْ لم يكن فيها ألفٌ ـ فأن تكون الألفُ حُذفت لكثرة الاستعمال. وعلى قولِ مَنْ أبْدل كورش حُذِفَت إحدى الألفين لالتقاء الساكنين.
وقال أبو شامة: "قلت: "الأَوْلى في هذه الكلمة على جميع القراءات فيها أن تكونَ "ها" للتنبيه، لأنَّا إنْ جعلناها بدلاً من همزة كانت تلك الهمزةُ همزةَ استفهام، و"ها أنتم" أينما جاءت في القرآن إنما جاءت للخبر لا للاستفهام، ولا مانع من ذلك إلا تسهيلُ مَنْ سَهَّل وحَذْفُ من حذف، أمَّا التسهيل، فقد سبق تشبيه بقوله:
{ { لأَعْنَتَكُمْ } [البقرة: 220] وشبهِه، أمَّا الحذفُ فيقول: "ها" مثل: "أَما" كلاهما حرفُ تنبيه، وقد ثَبَتَ جوازُ حذفِ ألف "أما" فكذا حَذْفُ ألف "ها" وعلى ذلك قولُهم: "أمَ واللهِ لأفعلن"، وقد حمل البصريون قولَهم: "هَلُمَّ" على أنَّ الأصلَ: "هالمَّ" ثم حُذِفت ألفُ "ها" فكذا: ها أنتم". قلت: وهو كلامٌ حسن، إلا أنَّ قولَه: "إنَّ ها أنتم حيث جاءت كانت خبراً لا استفهاماً" ممنوعٌ، بل يجوزُ ذلك ويجوزُ الاستفهام. انتهى.
وذكر الفراء أيضاً هنا بحثاً بالنسبة إلى القصر والمد فقال: "مَنْ أثبتَ الألف في "ها" واعتقدها للتنبيه، وكانَ مِنْ مذهبه أن يَقْصُر في المنفصل فقياسُه هنا قَصْرُ الألف، حقق الهمزة أو سَهَّلها، وأمَّا مَنْ جعلها للتنبيه ومذهبهُ المدُّ في المنفصل أو جَعَلَ الهاءَ مبدلةً من همزة استفهام فقياسه أن يَمُدَّ، سواءً حقق الهمزة أو سَهََّلها". وأمَّا ورش فقد تقدَّم عنه وجهان: إبدالُ الهمزةِ من "أنتم" ألفاً وتسهيلُها بينَ بينَ، فإذا أَبْدل مدَّ، وإذا سَهَّل قَصَر. وهذا كافٍ فيما يتعلق بالقراءاتِ وتفريعاتِ مذاهب القرَّاء عليها، وقد تكلَّموا بأكثرَ من ذلك، ولكن ليس هذا موضعَه.
إذا عرفت جميع ما تقدم ففي إعراب هذه الآية أوجه، أحدها: أن "أنتم" مبتدأ و"هؤلاء" خبرُه، والجملةُ من قوله "حاججتم" جملةٌ مستأنفة مبينة للجملة الأولى، يعني: أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى، وبيانُ حماقِتكم وقلةِ عقولكم أنكم جادلتم فيما لكم به علم بما نَطَقَ به التوراة والإِنجيل، فلِمَ تُحاجون فيما ليس لكم به علم؟ ذكر ذلك الزمخشري.
الثاني: أن يكونَ "أنتم هؤلاء" مبتدأً وخبراً. والجملةُ من "حاجَجْتم" في محلِّ نصبٍ على الحال. يَدُلُّ على ذلك تصريحُ العرب بإبقاء الحالِ موقعها في قولِهم: "ها أنا ذا قائماً"، ثم هذه الحالُ عندهم من الأحوالِ اللازمةِ التي لا يَسْتَغْنِي الكلامُ عنها/. الثالث: أَنْ يكونَ "أنتم هؤلاء على ما تقدم أيضاً، ولكن "هؤلاء" هنا موصولٌ لا يَتمُّ إلا بصفةٍ وعائدٍ، وهما الجملةُ مِنْ قوله: "حاجَجْتُم" ذَكَره الزمخشري، وهذا إنما يتجه عند الكوفيين، تقديرُه: ها أنتم الذين حاجَجْتُم. الرابع: أن يكونَ "أنتم" مبتدأ، و"حاججتم" خبرَه، و"هؤلاء" منادى، وهذا إنما يتجه عند الكوفيين أيضاً، لأنَّ حرف النداء لا يُحْذَفُ من أسماء الإِشارة، وأجازه الكوفيون وأنشدوا:

1326ـ إنَّ الأُولى وُصِفوا قومي لهم فبِهِمْ هذا اعتصِمْ تَلْقَ مَنْ عاداكَ مَخذولا

يريد : يا هذا اعتصم، وقول الآخر:

1327ـ لا يَغُرَّنْكُمُ أولاءِ من القو مِ جُنوحٌ للسِّلْمِ فَهْو خِداعُ

يريد: يا أولاء. الخامس: أَنْ يكونَ "هؤلاء" منصوباً على الاختصاص بإضمار فعل، و"أنتم" مبتدأً و"حاجَجْتم" خبرَه، وجملةُ الاختصاصِ معترضةٌ. السادس: أن يكونَ على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه: ها أنتم مثل هؤلاء، وتكونُ الجملةُ بعدَها مُبَيِّنَةً لوجهِ التشبيه أَوْ حالاً، السابع: أن يكون "أنتم" خبراً مقدماً، و"هؤلاء" مبتدأ مؤخراً. وهذه الأوجه السبعة قد تقدم ذِكرُها وذِكْرُ مَنْ نُسِبت إليه والردُّ على بعضِ القائلين ببعضِها بما يُغْني عن إعادتِه في سورة البقرة عند قوله تعالى: { ثُمَّ أَنْتُمْ هَـٰؤُلاۤءِ تَقْتُلُونَ } [البقرة: 85]، وإنما أعدْتُه تَذْكِرَةً به فعليك بالالتفات إليه.
قوله: { فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ }: "ما" يجوزُ أَنْ تكونَ بمعنى الذي وأن تكونَ نكرةً موصوفةً، ولا يجوزُ أَنْ تكنَ مصدرية لعَوْدِ الضمير عليها، وهي حرفٌ عند الجمهور، "ولكم" يجوز أن يكونَ خبراً مقدماً، و"علم" مبتدأ مؤخر، والجملة صلة لـ"ما" أو صفة، ويجوز أن يكون "لكم" وحده صلةً أو صفة، و"علم" فاعلٌ به، لأنه قد اعتمد، و"به" متعلقٌ بمحذوف لأنه حال من "علم"، إذ لو تأخَّر عنه لصَحَّ جَعْلُه نعتاً له، ولا يجوز أَنْ يتعلق بعِلْم لأنه مصدر، والمصدر لا يتقدَّم معمولُه عليه، فإنْ جَعَلْته متعلِّقاً بمحذوفٍ يفسِّره المصدر جاز ذلك وسُمِّي بياناً.