التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا ٱلسَّاعَةُ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلاَ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ
٣
-سبأ

الدر المصون

قوله: { بَلَىٰ }: جوابٌ لقولِهم "لا تَأْتينا" وما بعده قسمٌ على ذلك. وقرأ العامَّةُ "لَتَأْتِيَنَّكم" بالتأنيث. وطلق بالياء فقيل: أي: البعثُ. وقيل: هي على معنى الساعة، أي: اليوم. قاله الزمخشري. ورَدَّه الشيخ بأنه ضرورةٌ، كقوله:

3710 ـ ............................ ولا أَرْضَ أبْقَلَ إبْقالَها

وليس مثلَه. وقيل: أي الله بمعنى أمْرُه. ويجوز على قياسِ هذا الوجهِ أَنْ يكونَ "عالمُ" فاعلاً لـ "يَأْتَيَنَّكم" في قراءةِ مَنْ رفعه.
قوله: "عالم" قرأ الأخَوان "عَلاّم" على صيغة المبالغة وخفضِه نعتاً لـ رَبِّي" أو بدلاً منه وهو قليلٌ لكونِه مشتقاً. ونافع وابن عامر "عالمُ" بالرفع على هو عالم أو على أنه مبتدأٌ، وخبره "لا يَعْزُب" أو على أنَّ خبرَه مضمرٌ أي هو. ذكره الحوفي. وفيه بُعْد. والباقون "عالم" بالخفض على ما تقدَّم. وإذا جُعِل نعتاً فلا بُدَّ مِنْ تقدير تعريفِه. وقد تقدَّم أنَّ كلَّ صفةٍ يجوزُ أن تتعرَّفَ بالإِضافةِ إلاَّ الصفةَ المشبهةَ. وتقدَّمتْ قراءتا "يَعْزُب" في سورةِ يونس.
قوله: "ولا أَصْغَرُ" العامَّةُ على رفعِ "أصغر" و"أكبر". وفيه وجهان، أحدُهما: الابتداء، والخبرُ { إِلاَّ فِي كِتَابٍ }. والثاني: النسقُ على "مثقالُ" وعلى هذا فيكونُ { إِلاَّ فِي كِتَابٍ } تأكيداً للنفيِ في "لا يَعْزُبُ" كأنه قال: لكنه في كتاب مُبين.
وقرأ قتادةُ والأعمش، ورُوِيَتْ عن أبي عمرو ونافع أيضاً، بفتح الراءَيْن. وفيهما وجهان، أحدهما: أنها "لا" التبرئةُ بُني اسمُها معها. والخبرُ قولُه: { إِلاَّ فِي كِتَابٍ }. الثاني: النسقُ على "ذَرَّةٍ". وتقدَّم في يونس أنَّ حمزةَ قرأ بفتح راءِ "أصغر" و"أكبر" وهنا وافقَ على الرفع. وتقدَّم البحثُ هناك مُشْبَعاً. قال الزمخشري: "فإن قلتَ: هَلاَّ جاز عطفُ "ولا أصغرُ" على "مثقال"، وعطف "ولا أكبرَ" على "ذَرَّة". قلت: يَأْبَى ذلك حرفُ الاستثناءِ إلاَّ إذا جَعَلْتَ الضميرَ في "عنه" للغيبِ، وجَعَلْتَ "الغيب" اسماً للخَفِيَّات قبل أنْ تُكتبَ في اللَّوْح؛ لأنَّ إثباتَها في اللوحِ نوعٌ من البروزِ عن الحجاب على معنى: أنه لا يَنْفَصِلُ عن الغيب شيءٌ ولا يَزِلُّ عنه/ إلاَّ مَسْطوراً في اللوح". قال الشيخ: "ولا يُحتاجُ إلى هذا التأويلِ إذا جَعَلْنا الكتابَ ليس اللوحَ المحفوظ".
وقرأ زيد بن علي بخفض راءَيْ "أصغر" و"أكبر" وهي مُشْكلةٌ جداً. وخُرِّجَتْ على أنهما في نية الإِضافة؛ إذ الأصلُ: ولا أصغرِه ولا أكبره، وما لا ينصرف إذا أُضيفَ انْجَرَّ في موضعِ الجرِّ، ثم حُذِفَ المضافُ إليه ونُوي معناه فَتُرِك المضَافُ بحالِه، وله نظائرُ كقولهم:

3711 ـ ............................. بين ذراعَيْ وجَبْهَةِ الأسَدِ

و[قوله:]

3712 ـ يا تَيْمَ عَدِيٍّ ............... ..........................

على خلافٍ. وقد يُفَرَّقُ: بأن هناك ما يَدُلُّ على المحذوفِ لفظاً بخلاف هنا. وقد رَدَّ بعضُهم هذا التخريجَ لوجود "مِنْ"؛ لأنَّ أفعلَ متى أُضيف لم يجامِعْ "مِنْ". وأُجيب عن ذلك بوجهين، أحدهما: أنَّ "مِنْ" ليسَتْ متعلقةً بـ أَفْعَل؛ بل بمحذوفٍ على سبيل البيانِ لأنه لَمَّا حُذِفَ المضافُ إليه انبهم المضافُ فتبَيَّن بـ "مِنْ" ومجرورِها أي: أعني من ذلك. والثاني: أنَّه مع تقديرِه للمضافِ إليه نُوي طَرْحُه، فلذلك أُتي بـ "مِنْ". ويدلُّ على ذلك أنه قد وَرَدَ التصريحُ بالإِضافةِ مع وجود "مِنْ" قال الشاعر:

3713 ـ نحن بغَرْسِ الوَدَي أَعْلَمُنا مِنَّا بركضِ الجيادِ في السُّدَفِ

وخُرِّجَ على هذين الوجهين: إمَّا التعلُّقِ بمحذوفٍ، وإمَّا نيةِ اطِّراحِ المضاف إليه. قلت: وهذا كما احتاجوا إلى تأويل الجمع بين أل ومِنْ في أفعلَ كقوله:

3714 ـ ولستُ بالأكثرِ منهم حَصَىً ..............................

وهذه توجيهاتُ شذوذٍ، لا يُطْلَبُ فيها أكثرُ مِنْ ذلك فلْيُقْنَعْ بمثله.