التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ ٱلْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ
٢٧
-فاطر

الدر المصون

قوله: { فَأَخْرَجْنَا }: هذا التفاتٌ من الغَيْبةِ إلى التكلم. وإنما كان ذلك لأنَّ المِنَّةَ بالإِخراج أبلغُ من إنزال الماءِ. و"مختلفاً" نعتٌ لـ "ثمرات"، و"ألوانُها" فاعلٌ به، ولولا ذلك لأنَّث "مختلفاً"، ولكنه لمَّا أُسْند إلى جمعِ تكسيرٍ غيرِ عاقلٍ جاز تذكيرُه، ولو أنَّثَ فقيل: مختلفة، كما تقول: اختلفَتْ ألوانُها لجازَ، وبه قرأ زيد بن علي.
قوله: { وَمِنَ ٱلْجِبَالِ جُدَدٌ } العامَّةُ على ضمِّ الجيمِ وفتح الدالِ، جمعَ "جُدَّة" وهي الطريقةُ. قال ابن بحر: "قِطَعٌ، مِنْ قولك: جَدَدْت الشيءَ قَطَعْتُه". وقال أبو الفضل: "هي ما تخالَفَ من الطرائق لونُ ما يليها، ومنه جُدَّة الحِمارِ للخَطِّ الذي في ظهرِه. وقرأ الزهري "جُدُد" بضم الجيم والدال جمع جَدِيْدَة، يقال: جديدة وجُدُد وجَدائد. قال أبو ذُؤيب:

3765 ـ ........................ جَوْنُ السَّراةِ له جَدائدُ أربعُ

نحو: سفينة وسُفُن وسفائِن. وقال أبو الفضل: "جمع جديد بمعنى آثار جديدة واضحة الألوان". وعنه أيضاً جَدَد بفتحهما. وقد رَدَّ أبو حاتمٍ هذه القراءةَ من حيثُ الأثرُ والمعنى، وقد صَحَّحهما غيرُه. وقال: الجَدَدُ: الطريق الواضح البيِّن، إلاَّ أنه وضع المفرَد موضعَ الجمعِ؛ إذ المرادُ الطرائقُ والخطوطُ.
قوله: "مختلِفٌ ألوانُها"مختلف" صفةٌ لـ "جُدَد" أيضاً. و"ألوانُها" فاعلٌ به كما تقدَّم في نظيره. ولا جائزٌ أَنْ يكونَ "مختلفٌ" خبراً مقدماً، و"ألوانُها" مبتدأٌ مؤخرٌ، والجملةُ صفةٌ؛ إذ كان يجبُ أَنْ يُقال: مختلفةٌ لتحمُّلِها ضميرَ المبتدأ. وقوله:/ "ألوانُها" يحتمل معنيين، أحدهما: أنَّ البياضَ والحمرةَ يتفاوتان بالشدة والضعفِ فرُبَّ أبيضَ أشدُّ من أبيضَ، وأحمرَ أشدُّ مِنْ أحمرَ، فنفسُ البياضِ مختلفٌ، وكذلك الحمرةُ، فلذلك جَمَع "ألوانها" فيكونُ من باب المُشَكَّل. الثاني: أن الجُدَدَ كلَّها على لونين: بياضٍ وحُمْرَةٍ، فالبياضُ والحُمْرَةُ وإنْ كانا لونَيْن إلاَّ أنهما جُمِعا باعتبارِ مَحالِّهما.
وقوله: "وغَرابيبُ سُوْدٌ" فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنه معطوفٌ على "حمرٌ" عَطْفَ ذي لون على ذي لون. الثاني: أنه معطوفٌ على "بِيضٌ". الثالث: أنه معطوفٌ على "جُدَدٌ". قال الزمخشري: "معطوف على "بيض" أو على "جُدَد"، كأنه قيل: ومن الجبالِ مخططٌ ذو جُدَد، ومنها ما هو على لونٍ واحد" ثم قال: "ولا بُدَّ من تقديرِ حذفِ المضافِ في قوله: { وَمِنَ ٱلْجِبَالِ جُدَدٌ } بمعنى: ومن الجبالِ ذو جُدَدٍ بيضٍ وحمرٍ وسُوْدٍ، حتى يَؤُول إلى قولِك: ومن الجبالِ مختلفٌ ألوانها، كما قال: { ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا }. ولم يذكُرْ بعد "غرابيب سود"مختلفٌ ألوانُها" كما ذكر ذلك لك بعد بيض وحُمْر؛ لأنَّ الغِرْبيبَ هو المبالِغُ في السوادِ، فصار لوناً واحداً غيرَ متفاوتٍ بخلافِ ما تقدَّم".
وغرابيب: جمعُ غِرْبيب وهو الأسودُ المتناهِي في السوادِ فهو تابعٌ للأسودِ كقانٍ وناصعٍ وناضِرٍ ويَقَق، فمِنْ ثَمَّ زعَم بعضُهم أنه في نيةِ التأخير، ومِنْ مذهبِ هؤلاءِ يجوز تقديمُ الصفةِ على موصوفِها، وأنشدوا:

3766 ـ والمُؤْمِن العائذاتِ الطير .............. ............................

يريد: والمؤمنِ الطيرَ العائذات، وقولَ الآخر:

3767 ـ وبالطويلِ العُمْرِ عُمْراً حَيْدَراً

يريد: وبالعمر الطويل. والبصريُّون لا يَرَوْن ذلك ويُخَرِّجُون هذا وأمثالَه على أنَّ الثاني بدلٌ من الأول فـ سود والطير والعمر أبدالٌ مِمَّا قبلها. وخَرَّجه الزمخشريُّ وغيرُه على أنه حَذَفَ الموصوفَ وقامَتْ صفتُه مقامَه، وأن المذكورَ بعد الوصفِ دالٌّ على الموصوفِ. قال الزمخشري: "الغِرْبيبُ: تأكيدٌ للأَسْوَدِ، ومِنْ حَقِّ التوكيدِ أَنْ يَتْبَعَ المؤكِّد كقولك: أصفَرُ فاقِعٌ وأبيضٌ يَقَقٌ. ووجهه: أَنْ يُضْمَرَ المؤكَّدُ قبلَه، فيكون الذي بعده تفسيراً لِما أُضْمِر كقوله:

والمؤمِنِ العائذاتِ الطيرِ ...............

وإنما يُفْعَلُ ذلك لزيادةِ التوكيدِ حيث يدلُّ على المعنى الواحد من طريقَيْ الإِظهار والإِضمار" يعني فيكونُ الأصلُ: وسودٌ غرابيبُ سودٌ، والمؤمنُ الطيرَ العائذاتِ الطيرَ. قال الشيخ: "وهذا لا يَصِحُّ إلاَّ على مذهب مَنْ يُجَوِّز حَذْفَ المؤكَّد. ومن النحويين مَنْ مَنَعَه وهو اختيارُ ابنِ مالك". قلت: ليس هذا هو التوكيدَ المختلفَ في حَذْفِ مؤكَّدهِ؛ لأنَّ هذا من باب الصفة والموصوف. ومعنى تسميةِ الزمخشريِّ لها تأكيداً من حيث إنها لا تفيد معنًى زائداً، إنما تفيدُ المبالغةَ والتوكيدَ في ذلك اللونِ، والنَّحْويون قد سَمَّوا الوصفَ إذا لم يُفِدْ غيرَ الأولِ تأكيداً فقالوا: وقد يجيْءُ لمجرِد التوكيد نحو: نعجةٌ واحدةٌ، وإلهين اثنين، والتوكيدُ المختلفُ في حَذْف مؤكَّده، وإنما هو من باب التوكيدِ الصناعي، ومذهب سيبويه جوازُه، أجاز "مررت بأخويك أنفسُهما (أنفسَهما)" بالنصب أو الرفع، على تقدير: أَعْنيهما أنفسَهما، أو هما أنفسُهما فأين هذا من ذاك؟ إلاَّ أنه يُشْكِلُ على الزمخشري هذا المذكورُ بعد "غَرابيب" ونحوِه بالنسبة إلى أنه جعله مُفَسِّراً لذلك المحذوفِ، وهذا إنما عُهِد في الجملِ، لا في المفرداتِ، إلاَّ في باب البدل وعَطف البيانِ فبأيِّ شيءٍ يُسَمِّيه؟ والأَوْلَى فيه أن يُسَمَّى توكيداً لفظياً؛ إذ الأصلُ: سود غرابيب سود.