التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِي جَآءَ بِٱلصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ
٣٣
-الزمر

الدر المصون

قوله: { وَٱلَّذِي جَآءَ }: بالصدق لَفْظُه مفردٌ، ومعناه جمعٌ لأنه أُريد به الجنسُ. وقيل: لأنه قُصِدَ به الجزاءُ، وما كان كذلك كَثُرَ فيه وقوعُ "الذي" موقع "الذين"، ولذلك رُوْعي معناه فجُمِع في قولِه: { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ } كما رُوْعِيَ معنى "مَنْ" في قولِه: "للكافرين"؛ فإنَّ الكافرين ظاهرٌ واقعٌ موقعَ المُضْمرِ؛ إذ الأصلُ: مثوىً لهم. وقيل: بل الأصلُ: والذين جاء بالصدق، فحُذِفَتِ النونُ تخفيفاً، كقولِه: { { وَخُضْتُمْ كَٱلَّذِي خَاضُوۤاْ } [التوبة: 69]. وهذا وهمٌ؛ إذ لو قُصِد ذلك لجاء بعده ضميرُ الجمع، فكان يُقال: والذي جاؤوا، كقوله: "كالذي خاضُوا". ويَدُلُّ عليه أنَّ نونَ التثنيةِ إذا حُذِفَتْ عاد الضميرُ مَثْنى، كقولِه:

3895 ـ أَبَني كُلَيْبٍ إنَّ عَمَّيَّ اللَّذا قَتَلا الملوكَ وفَكَّكا الأَغْلالا

ولجاءَ كقوله:

3896 ـ وإنَّ الذيْ حانَتْ بفَلْجٍ دماؤُهُمْ همُ القومُ كلُّ القومِ يا أمَّ خالدِ

وقرأ عبدُ الله { وَٱلَّذِي جَآؤوا بِٱلصِّدْقِ وَصَدَّقَوا بِهِ } وقد تقدَّم تحقيقُ مثلِ هذه الآيةِ في أوائلِ البقرة وغيرها. وقيل: "الذي" صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ بمعنى الجمعِ، تقديرُه: والفريق أو الفوج ولذلك قال: { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ }. وقيل: المرادُ بالذي واحدٌ بعينِه وهو محمدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم، ولكن لَمَّا كان المرادُ هو وأتباعُه اعْتُبر ذلك فجُمِعَ، فقال: "أولئك هم" كقوله: { { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } [المؤمنون: 49]. قاله الزمخشري وعبارتُه: "هو رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم أراد به إياه ومَنْ تبعه، كما أراد بموسى إياه وقومَه". وناقشه الشيخ في إيقاعِ الضميرِ المنفصلِ موقعَ المتصلِ قال: "وإصلاحُه أَنْ يقولَ: أراده به كما أراده بموسى وقومِه". قلت: ولا مناقَشَةَ؛ لأنَّه مع تقديم "به" و"بموسى" لغرضٍ من الأغراض استحالَ اتصالُ الضميرِ، وهذا كما تقدَّم لك بحثٌ في قولِه تعالى: { { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ } [النساء: 131]، وقوله: { { يُخْرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ } [الممتحنة: 1]: وهو أنَّ بعضَ الناسِ زَعَمَ أنه يجوزُ الانفصالُ مع القدرةِ على الاتصال، وتقدَّم الجوابُ بقريبٍ مِمَّا ذكَرْتُه هنا، وبَيَّنْتُ حكمةَ التقديمِ ثمةَ. وقولُ الزمخشريِّ: "إن الضميرَ في "لعلهم يَهْتدون" لموسى وقومِه" فيه نظرٌ، بل الظاهرُ خصوصُ الضميرِ بقومِه دونَه؛ لأنَّهم هم المطلوبُ منهم الهدايةُ. وأمَّا موسى عليه السلام فمهتدٍ ثابتٌ على الهداية. وقال الزمخشري أيضاً: "ويجوز أن يريدَ: والفوج أو الفريق الذي جاء بالصدقِ وصَدَّق به، وهم: الرسولُ الذي جاء بالصدقِ وصحابتُه الذين صَدَّقوا به". قال الشيخ: "وفيه توزيعُ الصلةِ، والفوجُ هو الموصولُ، فهو كقولِك: جاء الفريقُ الذي شَرُفَ وشَرُفَ، والأظهرُ عَدَمُ التوزيعِ بل المعطوفُ على الصلةِ صلةٌ لمَنْ له الصلة الأولى".
وقرأ أبو صالح وعكرمة بن سليمان/ ومحمد بن جُحادة مخففاً بمعنى صَدَقَ فيه، ولم يُغَيِّرْه. وقُرِئ "وصُدِّق به" مشدَّداً مبنياً للمفعول.