التفاسير

< >
عرض

وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي ٱلأَرْضِ مُرَٰغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ ٱلْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ ٱللَّهِ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً
١٠٠
-النساء

الدر المصون

و { مُهَاجِراً }: نصبٌ على الحال من فاعل "يَخْرج" قوله: { ثُمَّ يُدْرِكْهُ } الجمهورُ على جزم "يدركْه" عطفاً على الشرط قبله، وجوابه "فقد وقع"، وقرأ الحسن البصري بالنصب. قال ابن جني: "وهذا ليس بالسهل وإنما بابُه الشعر لا القرآنُ وأنشد:

1643- وسأترُكُ منزلي لبني تميم وألحقُ بالحجازِ فاستريحا

والآيةُ أقوى من هذا لتقدُّم الشرط قبل المعطوف"، يعني أن النصب بإضمار "أن" إنما يقع بعد الواو والفاء في جواب الأشياء الثمانية أو عاطفٍ، على تفصيلٍ موضوعه كتب النحو، والنصبُ بإضمار "أن" في غير تلك المواضع ضرروةٌ كالبيتِ المتقدم، وكقول الآخر:

1644- ............... ويَأْوي إليها المستجيرُ فيُعْصَما

وتبع الزمخشري أبا الفتح في ذلك، وأنشد البيت الأول. وهذه المسألة جَوَّزها الكوفيون لمدركٍ آخرَ وهو أن الفعلَ الواقع بين الشرط والجزاء يجوز فيه الرفع والنصب والجزم إذا وقع بعد الواو والفاء، واستدلُّوا بقول الشاعر:

1645- ومَنْ لا يُقَدِّمْ رِجْلَه مطمئنةً فَيُثْبِتَها في مستوى القاعِ يَزْلَقِ

وقول الآخر:

1646- ومَنْ يَقْتَرِبْ منا ويخضع نُؤْوِه ولا يَخْشَ ظلماً ما أقامَ ولا هَضْما

وإذا ثبت ذلك في الواو والفاء فليَجُزْ في "ثم" لأنها حرف عطف. وقرأ النخعي وطلحة بن مصرف برفع الكاف، وخَرَّجها ابن جني على إضمار مبتدأ أي: "ثم هو يدركُه الموت"، فعطفَ جملةً اسمية على فعلية، وهي جملة الشرط: الفعلُ المجزومُ وفاعلُه، وعلى ذلك حَمَل يونس قولَ الأعشى:

1647- إنْ تركَبوا فركوبُ الخيل عادتُنا أو تَنْزِلون فإنَّا معشرٌ نُزُلُ

أي: وأنتم تنزلون، ومثله:

1648- إنْ تُذْنِبوا ثم تأتيني بَقِيَّتُكُمْ فما عليَّ بذنبٍ عندكم حُوبُ

أي: ثم أنتم تأتيني. قلتُ: يريدُ أنه لايُحْملُ على إهمالِ الجازمِ فيُرْفَعُ الفعلُ بعدَه، كما رُفِعَ في "أليم يأتيك" فلم يَحْذِفِ الياء، وهذا البيت أنشده النحويون على أنَّ علامَةَ الجزمِ حَذْفُ الحركةِ المقدرة في حرفِ العلة، وضَمُّوا إليه أبياتاً أُخَرَ، أمَّا أنهم يزعمون أنَّ حرف الجزم يُهمل ويَسْتدلون بهذا البيت فلا. ومنهم مَنْ خَرَّجها على وجه آخر، وهو أنه أراد الوقفَ على الكلمة فنقلَ حركةَ هاءِ الضمير إلى الكافِ الساكنةِ للجزم، كقولِ الآخر:

1649- عَجِبْتُ والدهرُ كثيرٌ عَجَبُهْ مِنْ عَنَزِيٍّ سَبَّني لم أَضْرِبُهْ

يريد "لم أَضْرِبْه" بسكون الباء للجازم، ثم نَقَلَ إليها حركة الهاء فصار اللفظُ "ثُم يُدْرِكُهْ" ثم أَجْرى الوصلَ مُجْرى الوقفِ فالتقى ساكنان فاحتاج إلى تحريك الأولِ وهو الهاءُ، فَحَرَّكها بالضمِّ؛ لأنه الأصلُ وللإِتباعِ أيضاً، وهذه الأوجهُ تَشْحَذُ الذِّهنَ وتنقِّحُه.