التفاسير

< >
عرض

وَلْيَخْشَ ٱلَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً
٩
-النساء

الدر المصون

قوله تعالى: { وَلْيَخْشَ ٱلَّذِينَ }: قرأ الجمهورُ بسكون اللام في الأفعال الثلاثةِ. وهي لامُ الأمر، والفعلُ بعدها مجزومٌ بها. وقرأَ الحسن وعيسى بن عمر بكسرِ اللامِ في الأفعالِ الثلاثةِ، وهو الأصلُ، والإِسكانُ تخفيفٌ إجراءً للمنفصل مُجْرى المتصل، فإنهم شَبِّهوا "وَلْيخش" بـ"كَتِف" وهذا كما تقدَّم الكلامُ في نحو: "وهي" و"لَهْي" في أول البقرة.
و"لو" هذه فيها احتمالان، أحدُهما: أنَّها على بابِها مِنْ كونِها حرفاً لِما كان سيقع لوقوع غيره، أو حرفَ امتناع لامتناع على اختلاف العبارتين. والثاني: أنها بمعنى "إنْ" الشرطية. وإلى الاحتمال الأولِ ذهب ابن عطية والزمخشري. قال الزمخشري: "فإنْ قلت: ما معنى وقوعِ "لو تركوا" وجوابِه صلةً لـ"الذين"؟ قلت: معناه: وَلْيخش الذين صفتُهم وحالُهم أَنهم لو شارَفوا أَنْ يَتْرُكُوا خلفَهم ذريةً ضِعافاً، وذلك عند احتضارهم خافوا عليهم الضياعَ بعدهم لذهابِ كافلهم وكاسبهم، كما قال القائل:

1550ـ لقد زادَ الحياةَ إليَّ حُبَّاً بناتِي أنَّهن من الضِعافِ

أُحاذِرُ أن يَرَيْنَ البؤس بعدي وأن يَشْرَبْنَ رنْقاً بعد صافي

وقال ابن عطية: "تقديرُه: لو تَرَكُوا لخافُوا، ويجوزُ حذفُ اللامِ من جواب لو"، ووجهُ التمسُّكِ بهذه العبارةِ أنه جَعَلَ اللامَ مقدرةً في جوابِها، ولو كانت "لو" بمعنى "إنْ" الشرطية لَما جاز ذلك، وقد صَرَّح غَيرُهما بذلك، فقال: "لو تركوا"لو" يمتنع بها الشيء لامتناع غيره، و"خافوا" جوابُ "لو".
وإلى الاحتمال الثاني ذهب أبو البقاء وابن مالك، قال ابن مالك: "لو" هنا شرطيةٌ بمعنى "إنْ"، فتقلِبُ الماضي إلى معنى الاستقبال، والتقدير: وَلْيخش الذين إنْ تركوا، ولو وقع بعد "لو" هذه مضارع كان مستقبلاً كما يكونُ بعد "إنْ" وأنشد:

1551ـ لا يُلْفِكُ الرَّاجوك إلا مُظْهِراً خُلُقَ الكرامِ ولو تكونُ عَدِيما

أي: وإنْ تكن عديماً. ومثلُ هذا البيتِ الذي أنشده قولُ الآخر:

1552ـ قومٌ إذا حارَبُوا شدَّوا مآزِرَهُمْ دونَ النساءِ ولو باتَتْ بأطْهارِ

والذي ينبغي: أن تكونَ على بابِها من كونِها تعليقاً في الماضي.
وإنما حَمَل ابنَ مالك وأبا البقاء على جَعْلِها بمعنى "إنْ" توهُّمُ أنه لَمَّا أمر بالخشية ـ والأمرُ مستقبل ومتعلَّقُ الأمر موصولٌ ـ لم يَصِحَّ أن تكون الصلةُ ماضيةً على تقدير دلالتِه على العَدَمِ الذي يُنَافي امتثالَ الأمر، وحَسَّنَ مكانَ "لو" لفظُ "إنْ"، ولأجلِ هذا التوَهُّمِ لم يُدْخِل الزمخشري "لو" على فعل مستقبل، بل أتى بفعلٍ ماضٍ مسندٍ للموصولِ حالةَ الأمر فقال: "وَلْيخش الذين صفتُهم وحالُهم أنهم لو شارَفُوا أن يتركوا". قال الشيخ: "وهذا الذي توهَّموه لا يلزم، إلا إنْ كانت الصلةُ ماضيةً في المعنى واقعةً بالفعل، إذ معنى "لو تركوا من خلفهم" أي: ماتوا فتركوا مِنْ خلفهم، فلو كان كذلك لَلزم التأويلُ في "لو" أَنْ تكونَ بمعنى "إنْ" إذ لا يجامِعُ الأمرُ بإيقاعِ فعلٍ مَنْ مات بالفعل، أمَّا إذا كان ماضياً على تقديرٍ فيصِحُّ أن يقع صلةً. وأن يكونَ العاملُ في الموصولِ الفعلَ المستقبل، نحو قولِك: ليزُرْنا الذي لو مات أمسِ لبكيناه" انتهى.
وأمَّا البيتان المتقدِّمان فلا يلزمُ مِنْ صحةِ جَعْلِها فيهما بمعنى "إنْ" أن تكونَ في الآيةِ كذلك. لأنَّا في البيتين نضطرُ إلى ذلك: أمَّا البيتُ الأولُ فلأنَّ جوابَ "لو" محذوفٌ مدلولٌ عليه بقولِه: "لا يُلْفِك" وهو نَهْيٌ، والنهيُ مستقبلٌ فلذلك كانت "لو" تعليقاً في المستقبل. أما البيتُ الثاني فلدخولِ ما بعدَها في حَيِّزِ "إذا"، و"إذا" للمستقبل.
ومفعول "وَلْيَخْشَ" محذوفٌ أي: وَلْيخش الله. ويجوزُ أَنْ تكون المسألةُ من بابِ التنازع، فإنَّ "وَلْيخش" يطلبُ الجلالةَ، وكذلك "فليتقوا"، ويكونُ من إعمالِ الثاني للحذفِ من الأول.
قوله: { مِنْ خَلْفِهِمْ } فيه وجهان، أظهرُهما: أنه متعلِّقٌ بـ"تركوا" ظرفاً له. والثاني: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه حالٌ من "ذرية"، لأنَّه في الأصلِ صفةُ نكرةٍ قُدِّمَتْ عليها فَجُعِلَتْ حالاً.
وأمال حمزةُ ألفَ "ضِعافاً" ولم يُبالِ بحرفِ الاستعلاءِ لانكسارِه، ففيه انحدارٌ فلم ينافِرِ الإِمالةَ.
وقرأ ابن محيصن: "ضُعُفاً" بضمِّ الضاد والعين، وتنوين الفاء. والسلمي وعائشة: "ضعفاء" بضمِّ الضاد وفتح العين والمد، وهو جمع مقيس في فعيل صفةً نحو: ظَريف وظُرَفاء وكريم وكُرَماء. وقرىء "ضَعافَى" بالفتحِ والإِمالة نحو: سَكارى. وظاهر عبارةِ الزمخشري أنه قُرِىءَ: "ضُعافى" بضم الضاد مثل سُكارى، فإنه قال: "وقُرىء ضُعَفَاء وضَعافى وضُعافى نحو سَكارى وسُكارى" فيُحتملِ أَنْ يريد أنه قُرِىء بضم الضاد وفتحِها، ويُحتمل أن يريدَ أنه قُرىء: "ضَعافى" بفتح الضاد دونَ إمالة، و"ضَعافَى" بفتحِها مع الإِمالة كسَكارى بفتحِ السين دونَ إمالة، وسَكارى بفتحها مع الإِمالة، والظاهرُ الأولُ، والغالبُ على الظن أنها لم تُنْقل قراءة.
وأمال حمزة ألفَ "خاف" للكسرةِ المقدرةِ في الألف، إذ الأصل "خَوِف" بكسر العين بدليلِ فتحِها في المضارع نحو: "يخاف"، وعَلَّل أبو البقاء ذلك بأنَّ الكسر قد يَعْرِض في حال من الأحوال، وذلك إذا أُسْنِدَ الفعل إلى ضمير المتكلم/ أو إحدى أخواته نحو: خِفْت وخِفْنا، والجملةُ من "لو" وجوابِها صلةُ "الذين".