التفاسير

< >
عرض

إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ تُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ ٱلطِّينِ كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ ٱلأَكْمَهَ وَٱلأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ ٱلْمَوتَىٰ بِإِذْنِيِ وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ فَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ
١١٠
-المائدة

الدر المصون

قوله تعالى: { إِذْ قَالَ ٱللَّهُ }: فيها أوجه، أحدها: أنه بدل من "يوم يجمع" قال الزمخشري: "والمعنى: أنه يوبخ الكافرين بسؤال الرسل عن إجابتهم، وبتعديد ما أَظْهر على أيديهم من الآيات العِظام فكذَّبهم بعضُهم وسَمَّوهم سحرةً، وتجاوزَ بعضُهم الحَدَّ فجعله وأمه إليهن". ولمَّا ذَكَر ابو البقاء هذا الوجهَ تأوَّلَ فيه "قال" بـ"يقول" وأنَّ "إذ" وإنْ كانت للماضي فإنما وَقَعَتْ هنا على حكاية الحالِ. الثاني: أنه منصوبٌ بـ"اذكر" مقدراً، قال أبو البقاء: "ويجوزُ أن يكونَ التقديرُ: إذ يقول"، يعني أنه لا بد من تأويل الماضي بالمستقبلِ، وهذا كما تقدَّم له في الوجهِ قبله، وكذا ابن عطية تأوَّله بـ "يقول" فإنه قال: "تقديرُه: اذكر يا محمد إذ" و"قال" هنا بمعنى "يقول" لأنَّ ظاهرَ هذا القولِ إنما هو في يوم القيامة تقدمه لقوله: { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ } الثالث: أنه في محل رفعٍ خبراً لمتبدأ مضمر، أي: ذلك إذ قال، ذكره الواحدي وهذا ضعيفٌ، لأن "إذ" لا يُتَصَرَّف فيها، وكذلك القولُ بأنها مفعول بها بإضمار "اذكر" وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك، اللهم إلا أَنْ يريدَ الواحدي بكونِه خبراً أنه ظرفٌ قائمٌ مقامَ خبرٍ نحو: "زيدٌ عندك" فيجوز.
قوله: { يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ } تقدَّم الكلام في اشتقاق هذه المفردات ومعانيها و"ابن" صفة لـ "عيسى" نُصِب لأنه مضاف، وهذه قاعدةٌ كلية مفيدة، وذلك أنَّ المنادى المفردَ المعرفة الظاهرَ الضمةِ إذا وُصف بـ"ابن" أو ابنة ووقع الابن أو الابنة بين علمين أو اسمين متفقين في اللفظ ولم يُفْصَل بين الابن وبين موصوفه بشيء تثبت له أجكامٌ منها: أنه يجوزُ إتباعُ المنادى المضمومِ لحركةِ نون "ابن" فيُفتح نحو: "يا زيدَ بن عمرو، ويا هندَ ابنة بكر" بفتح الدال من "زيد" و"هند" وضمِّها، فلو كانت الضمةُ مقدرةً نحو ما نحن فيه، فإنَّ الضمة مقدرة على ألف "عيسى" فهل يُقَدَّر بناؤه على الفتح إتباعاً كما في الضمة الظاهرة؟ خلاف: الجمهورُ على عَدَمِ جوازِه، إذ لا فائدة في ذلك، فإنه إنما كان للإِتباع وهذا المعنى مفقود في الضمة المقدرة. وأجاز الفراء ذلك إجراءً للمقدر مُجْرى الظاهر، وتبعه أبو البقاء فإنه قال: "يجوز أن يكونَ على الألف من "عيسى" فتحةٌ، لأنه قد وُصِف بـ"ابن" وهو بين عَلَمين، وأن يكونَ علهيا ضمةٌ، وهو مثلُ قولِك: "يا زيد بن عمرو" بفتح الدال وضمها". وهذا الذي قالاه غيرُ بعيدٍ، ويَشْهَدُ له مسألة عند الجميعِ: وهو ما إذا كان المنادى مبنياً على الكسرِ مثلاً نحو: "يا هؤلاء" فإنهم أجازوا في صفتِه الوجهين: الرفعَ والنصبَ فيقولون: "يا هؤلاء العقلاءِ والعقلاءُ" بنصب العقلاء ورفعها، قالوا: والرفعُ مراعاةً لتلك الضمة المقدرة على "هؤلاء" فإنه مفرد معرفة، والنصب على محله، فقد اعتبروا الضمةَ المقدرةَ في الإِتباع، وإنْ كان ذلك فائتاً، في اللفظ. وقد يُفَرَّقُ بأنَّ "هؤلاء" نحن مضطرون فيه إلى تقدير تلك الحركةِ لأنه مفرد معرفةٌ، فكأنها ملفوظٌ بها بخلافِ تقديرِ الفتحة هنا.
وقال الواحدي في "يا عيسى": ويجوزُ أن يكونَ في محل النصب [لأنه في نية الإِضافة، ثم جَعَلَ الابنَ توكيداً له، وكل ما كان] مثلَ هذا جاز فيه الوجهان نحو: "يا زيد بن عمرو" وأنشد:

1841- يا حَكَمُ بنُ المنذرِ بن الجارودُ أنتَ الجوادُ بنُ الجوادِ بنُ الجودْ

سُرادِقُ المجدِ عليك ممدودْ

بنصب الأول ورفعه على ما بَيَّنَّا. وقال التبريزي: "الأظهر عندي أنَّ موضع "عيسى" نصب؛ لأنك [تجعلُ الاسم مع نعتِه إذا أضفته إلى العلم] كالشيء الواحد المضافِ، وهذا الذي قالاه لا يُشْبِهُ كلامَ النحاةِ أصلاً، بل يقولون: الفتحةُ للإِتباع ولم يُعْتَدَّ بالساكن لأنه حاجزٌ غيرُ حصينٍ، كذا قال الشيخ. قلت: قد قال الزمخشري - وكونه ليس من النحاة مكابرةٌ في الضروريات - عند قوله: { { إِذْ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ } [المائدة: 112]: "عيسى في محل النصب على إتباع حركته حركةَ الابن كقولك: "يا زيدَ بنَ عمرو" وهي اللغة الفاشية، ويجوزُ أن يكونَ مضموماً كقولِك "يا زيدُ بنَ عمرو" والدليل عليه قوله:

1842- أحارِ بن عمروٍ كأني خَمِرْ .....................

لأنَّ الترخيم لا يكونُ إلا في المضمومِ انتهى. فاحتاج إلى الاعتذار عن تقديرِ الضمة، واستشهد لها بالبيتِ لمخالفتِها اللغةَ الشيهرة.
وقولي: "المفرد" تحرُّزٌ من المُطَوَّل. وقولي "المعرفة" تحرز من النكرة نحو: "يا رجلاً ابن رجل" إذا لم تَقْصِدْ به واحداً بعينه. وقولي: "الظاهرَ الضمةِ" تحرُّزٌ من نحو: "يا موسى بن فلان" وكالآية الكريمة. وقولي: بـ"ابن" تحرُّزٌ من الوصف بغيرِه نحو: "يا زيدُ صاحبَنا" وقولي: "بين علمين أو متفقين لفظاً" تحرُّزٌ من نحو: "يا زيد بن أخينا" وقولي: "غيرَ مفصولٍ" تحرُّزٌ من نحو: "يا زيدُ العاقلُ ابنَ عمرو" فإنه لا يجوز في جميع ذلك إلا الضم. وقولي: "أحكام" قد تقدَّمتْ منها ما ذكرتُه من جوازِ فتحِه إتباعاً، ومنها: حَذْفُ ألفِه خطاً، ومنها: حَذْفُ تنويِنه في غيرِ النداء؛ لأنَّ المنادَى لا تنوينَ فيه. وقولي: "وصفٌ" تحرُّزٌ من أن يكون الابن خبراً لا صفة نحو: "زيدٌ ابنُ عمرو" وهل يجوزُ إتباعُ "ابن" فيُضمَّ نحو: "يا زيد بن ُ عمرو" بضم "ابن"؟ فيه خلافٌ.
وفي قوله: { ٱبْنَ مَرْيَمَ } ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنه صفةٌ كما تقدم، والثاني: أنه بدلٌ والثالث: أنه بيانٌ، وعلى الوجهين الأخيرين لا يجوزُ تقديرُ التفحةِ إتباعاً إجماعاً، لأنّ الابنَ لم يَقَعْ صفةً، وقد تقدم أنَّ ذلك شرطٌ.
قوله: { إِذْ أَيَّدتُّكَ } في "إذ" أوجهٌ، أحدُها: أنه منصوبٌ بـ "نعمتي" كأنه قيل: اذكرُ إذ أنعمتُ عليك وعلى أمِّك في وقت تأييدي لك. والثاني: أنه بدلٌ من "نعمتي" بدلُ اشتمال، وكأنه في المعنى تفسيرٌ للنعمة. والثالث: أنه حالٌ من "نعمتي" قاله أبوالبقاء والرابع: أن يكون مفعولاً به على السِّعَة قاله أبو البقاء أيضاً. قلت: هذا هو الوجهُ الثاني - أعني البدليةَ - وقرأ الجمهور "أيَّدتك" بتشديد الياء، وغيرهم "آيَدْتُك" وقد تقدَّم الكلام على ذلك وعلى مَنْ قرأ بها وما قاله الزمخشري وابن عطية والشيخ في سورة البقرة فليُنْظر ثَمَّ.
قوله: { تُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلْمَهْدِ } إلى آخرها: تقدَّم ايضاً في آل عمران، وما فائدةُ قوله: { فِي ٱلْمَهْدِ وَكَهْلاً } إلا أنَّ هنا بعضَ زياداتٍ لابدَّ من التعرض لها. قرأ ابن عباس: "فتنفخُها" بحذف حرف الجر اتساعاً. والجمهور: "فتكونُ" بالتاء منقوطةً فوق، وأبو جعفر منقوطةً تحتُ، أي: فيكونُ المنفوخ فيه. والضمير في "فيها" قال ابن عطية: "اضطربت فيه أقوال المفسرين" قال مكي: "هو في آل عمران عائدةٌ على الطائر، وفي المائدة عائدٌ على الهيئة" قال: "وَيصِحُّ عكس هذا". وقال غير مكي: "الضمير المذكور عائد على الطين". قال ابن عطية: "ولا يَصِحُّ عودُ هذا الضمير على الطير ولا على الطين ولا على الهيئة، لأنَّ الطير أو الطائر الذي يَجِيء الطين على هيئته لا يُنْفَخُ فيه البتةَ، وكذلك لا نفخَ في هيئته الخاصة به، وكذلك الطينُ إنما هو الطينُ العام ولا نفخَ في ذلك". وقال الزمخشري: "ولا يَرْجِعُ الضميرُ إلى الهيئةِ المضافِ إليها لأنها ليست مِنْ خَلْقِه ولا مِنْ نفخِه في شيء، وكذلك الضميرُ في "فتكون". ثم قال ابن عطية: "والوجهُ عودُ ضمير المؤنث على ما تقتضيه الآيةُ ضرورةً أي: صوراً أو أشكالاً أو اجساماً، وعودُ الضميرِ المذكِّر على المخلوقِ المدلولِ عليه بـ "تخلقُ" ثم قال: "ولك أن تعيدَه على ما تَدُلُّ عليه الكاف من معنى المثل لأنَّ المعنى: وإذ تَخْلُق من الطينِ مثلَ هيئِته، ولك أن تعيدَه على الكاف نفسِها فتكونَ اسماً في غيرِ الشعر" انتهى. وهذا القولُ هو عينُ ما قبله، فإنَّ الكافَ أيضاً بمعنى مِثْل، وكونُها اسماً في غير الشعرِ لم يَقُلْ به غيرُ الأخفش.
استشكل الناسُ قولَ مكي المتقدم كما قَدَّمْتُ حكايتَه عن ابن عطية، ويمكنُ أَنْ يُجابَ عنه بأنَّ قولَه "عائدٌ على الطائر" لا يريدُ به الطائر الذي أُضيفت إليه الهيئةُ بل الطائرُ المُصَوَّرُ، والتقدير: وإذ تخلق من الطين طائراً صورةَ الطائرِ الحقيقي فتنفخُ فيه فيكونُ طائراً حقيقياً، وأنَّ قوله "عائدٌ على الهيئة" لا يريدُ الهيئةَ المجرورةَ بالكاف، بل الموصوفةَ بالكاف، والتقدير: وإذ تخلُق من الطينِ هيئةً مثلَ هيئة الطائر فتنفخُ فيها أي: في الموصوفة بالكافِ التي نُسِب خَلْقُها إلى عيسى. وأمَّا كونُه كيف يعودُ ضميرٌ مذكر على هيئةٍ وضميرٌ مؤنثٌ عل الطائرِ لأنَّ قوله: "ويجوز عكسُ هذا" يؤدي إلى ذلك" فجوابُه أنه جازَ بالتأويل، لأنه تُؤَوَّلُ الهيئةُ بالشكل ويُؤَوَّل الطائرُ بالهيئةِ فاستقام، وهو موضعُ تأولٍ وتأنٍ. وقال هنا "بإذني" أربعَ مراتٍ عَقِيب أربع جمل، وفي آل عمران "بإذن الله" مرتين؛ لأنَّ هناك موضعَ إخبارٍ فناسَبَ الإِيجازَ، وهنا مقامُ تذكيرٍ بالنعمةِ والامتنانِ فناسبَ الإِسهابَ؛ وقوله: "بإذني" حالٌ: إمَّا من الفاعلِ أو من المفعول.
قوله: { إِلاَّ سِحْرٌ } قرأ الأخَوان هنا وفي هود وفي الصف "إلا ساحر" اسم فاعل، والباقون: "إلا سحرٌ" مصدراً في الجميع، والرسمُ يحتمل القراءتين، فأمَّا قراءةُ الجماعةِ فتحتمل أن تكون الإِشارة إلى ما جاءَ به من البينات أي: ما هذا الذي جاء به من الآيات الخوارقِ إلى سحرٌ، ويُحْتمل ان تكونَ الإِشارةُ إلى عيسى، جَعَلُوه نفسَ السحر مبالغةً نحو: "رجلٌ عدلٌ"، أو على حَذْفِ مضافٍ أي: إلا ذو سحر. وخَصَّ مكي هذا الوجهَ بكون المرادِ بالمشارِ إليه محمداً صلى الله عليه وسلم فقال: "ويجوزُ أن تكونَ إشارةً إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم على تقدير حَذْفِ مضافٍ أي: إنْ هذا إلا ذو سحر". قلت: وهذا جائزٌ، والمرادُ بالمشار إليه عيسى عليه السلام، وكيف يكونُ المرادُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو لم يكن في زمنِ عيسى والحواريين حتى يشيروا إليه إلا بتأويلٍ بعيد" وأمَّا قراءةُ الأخوين فتحتمل أن يكون "ساحر" اسم فاعل والمشارُ إليه "عيسى"، ويُحتمل أن يكون المرادُ به المصدرَ كقولهم: "عائذاً بك وعائذاً بالله مِنْ شَرِّها، والمشارُ إليه ما جاء به عيسى من البيِّنات والإِنجيل، ذَكَر ذلك مكي، وتَبِعه أبو البقاء، إلا أنَّ الواحدي مَنَع مِنْ ذلك فقال - بعد أَنْ حَكى القراءتين - "وكلاهما حَسَنٌ لاستواءِ كلِّ واحدٍ منهما في أنَّ ذِكْرَه قد تقدَّم، غير أَنَّ الاختيار "سحر" لجوازِ وقوعِه على الحَدِثِ والشخص، وأمَّا وقوُعه على الحدث فسهلٌ كثير، ووقُوعه على الشخصِ يريدُ ذو سحر كقوله:
{ { وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ آمَنَ } [البقرة: 177] وقالوا: "إنما أنت سيرٌ" و"ما أنت إلا سيرٌ"و:

1843- ................... فإنما هي إقبالٌ وإدبارُ

قلت: وهذا يرجِّحُ ما قَدَّمْتُه من أنه أَطْلق المصدر على الشخص مبالغةً نحو: "رجل عدل" ثم قال: "ولا يجوزُ أَنْ يُراد بساحر السحر، وقد جاء فاعِل يراد به المصدرُ في حروفٍ ليست بالكثير نحو: "عائذاً بالله من شره" أي: عياذاً، ونحو "العافِية" ولم تَصِرْ هذه الحروفُ من الكثرة بحيث يسوغُ القياس عليها"