التفاسير

< >
عرض

قَالَ ٱللَّهُ هَـٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ ٱلصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ
١١٩
-المائدة

الدر المصون

قوله تعالى: { يَوْمُ يَنفَعُ }: الجمهور على رفعه من غير تنوين، ونافع على نصبه من غير تنوين، ونقل الزمخشري عن الأعمش "يوماً" بنصبه منوناً، وابن عطية عن الحسن بن عياش الشامي: "يوم" برفعه منوناً، فهذه أربع قراءات. فأما قراءة الجمهور فواضحةٌ على المبتدأ والخبر، والجملةُ في محل نصب بالقول. وأمَّا قراءة نافع ففيها أوجه، أحدها: أنَّ "هذا" مبتدأ، و"يوم" خبره كالقراءة الأولى، وإنما بُنِي الظرفُ لإِضافتِه إلى الجملة الفعلية وإن كانت معربةً، وهذا مذهب الكوفيين، واستدلُّوا عليه بهذه القراءةِ، وأمَّا البصريون فلا يجيزون البناء إلا إذا صُدِّرت الجملةُ المضافُ إليها بفعلٍ ماض، وعليه قولُ النابغة:

1858- على حينَ عاتبتُ المشيبَ على الصِّبا فقلتُ: أَلمَّا أًصْحُ والشيبُ وازعُ

وخَرَّجوا هذه القراءةَ على أن "يوم" منصوبٌ على الظرف، وهو متعلق في الحقيقةِ بخبر المبتدأ أي: واقعٌ أو يقع في يوم ينفع، فيستوي هذا مع تخريج القراءة الأولى والثانية أيضاً في المعنى، ومنهم مَنْ خَرَّجه على أنَّ "هذا" منصوبٌ بـ"قال" وأُشير به إلى المصدرِ فنصبُه على المصدر، وقيل: بل أُشير به إلى الخبر والقِصَص المتقدمةِ فيجري في نصبه خلافٌ: هل هو منصوبٌ نصبَ المفعول به أو نصبَ المصادر؟ لأنه متى وقع بعد القول ما يُفْهم كلاماً نحو: "قلت شهراً وخطبة" جَرَى فيه هذا الخلاف، وعلى كلِّ تقدير فـ "يوم" منصوبٌ على الظرف بـ"قال" أي: قال الله هذا القولَ أو هذه الأخبارَ في وقتِ نفع الصادقين، و"ينفع" في محلِّ خفضٍ بالإِضافة، وقد تقدَّم ما يجوزُ إضافتُه إلى الجمل، وأنه أحد ثلاثةِ أشياء، وأمَّا قراءةُ التنوين فرفعُه على الخبريةِ كقراءة الجماعة، ونصبُه على الظرفِ كقراءة نافع، إلا أنَّ الجملةَ بعده في القراءتين في محل الوصفِ لِما قبلها، والعائدُ محذوفٌ، وهي نظيرَةُ قولِه تعالى: { { يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً } [البقرة: 48]، فيكونُ محلُّ هذه الجملةُ إما رفعاً أو نصباً.
قوله: { صِدْقُهُمْ } مرفوع بالفاعلية، وهذه قراءة العامة، وقُرِئ شاذاً بنصبه وفيه أربعة أوجه، أحدها: أنه منصوب على المفعول من أجله، أي: ينفعهم لأجلِ صِدْقِهم، ذكر ذلك أبو البقاء وتبعه الشيخ وهذا لا يجوزُ لأنه فاتَ شرطٌ من شروط النصب، وهو اتحاد الفاعل، فإنَّ فاعلَ النفعِ غيرُ فاعلِ الصدقِ، وليس لقائلٍ أن يقولَ: "يُنْصب بالصادقين فكأنه قيل: الذين يَصْدُقون لأجل صدقهم فيلزمُ اتحادُ الفاعل" لأنه يؤدي إلى أنَّ الشيء علة لنفسِه، وللقولِ فيه مجال. الثاني: على إسقاطِ حرف الجر أي: بصدقِهم، وهذا قد عَرَفْتَ ما فيه أيضاً من أنّ حَذْف الحرفَ لا يطَّرد. الثالث: أنه منصوب على المفعول به، والناصب له اسم الفاعل في "الصادقين" أي: الذين صَدَقوا صدقهم، مبالغةً نحو: "صَدَقْت القتال" كأنك وَعَدْتَ القتالَ فلم تَكْذِبْه، وقد يُقَوِّي هذا نصبُه على المفعول له، والعامل فيه اسم الفاعل قبله. الرابع: أنه مصدرٌ مؤكد كأنه قيل: الذين يَصْدُقون الصدقَ كما تقول: "صَدَق الصدقَ" وعلى هذه الأوجه كلِّها ففاعلُ "ينفع" ضميرٌ يعود على الله تعالى وقوله تعالى: { رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ } معناه الدعاءُ وباقي السورة ظاهرُ الإِعراب مِمَّا تقدَّم مِنْ نظائرِه ولله الحمدُ.