قوله تعالى: { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ }: المخاطب في "أنبئِّكُم" فيه قولان، أحدهما - وهو الذي لا يَعْرِف أكثرُ / أهلِ التفسير غيرَه: أنه يُراد به أهلُ الكتاب الذين تقدَّم ذكرُهم. والثاني: أنه للمؤمنين، قال ابن عطية: "ومَشى المفسرون في هذه الآية على أن الذين أُمَر أَنْ يقول لهم: "هل أنبئِّكم" هم اليهودُ والكفار المتَّخذون دينَنا هزواً ولعباً، قال ذلك الطبري، ولم يُسْنِد في ذلك إلى متقدِّم شيئاً، والآية تحتمل أن يكونَ القولُ للمؤمنين" انتهى، فعلى كونِه ضميرَ المؤمنين واضحٌ، وتكونُ أَفْعَلُ التفضيل - أعني "بشرّ" - على بابِها، إذ يصير التقدير: قل هل أنبِّئكم يا مؤمنون بشرٍّ من حال هؤلاء الفاسقين؟ أولئك أسلافُهم الذين لعنهم الله، وتكون الإِشارةُ بـ "ذلك" إلى حالِهم، كذا قَدَّره ابنُ عطية، وإنما قَدَّر مضافاً، وهو حال ليصِحَّ المعنى، فإن "ذلك" إشارةٌ للواحدِ، ولو جاءَ مِنْ غيرِ حَذْفِ مضافٍ لقيل: بشرٍّ من أولئكم بالجمع. وقال الزمخشري: "ذلك" إشارةٌ إلى المنقومِ، ولا بد من حذفِ مضافٍ قبلَه أو قبل "من" تقديرُه: بشرٍّ من أهل ذلك، أو دينِ مَنْ لَعَنَه [الله]" انتهى. ويجوزُ ألاَّ يقدَّرَ مضافٌ محذوفٌ لا قبلُ ولا بعدُ، وذلك على لغةِ مَنْ يُشير للمفردِ وللمثنى والمجموع تذكيراً وتانيثاً بإشارةِ الواحدِ المذكر، ويكون "ذلك" إشارةً إلى الأشخاصِ المتقدِّمين الذين هم أهلُ الكتابِ، كأنه قيل: بشرٍّ من أولئك، يعني أن السلف الذي لهم شَرٌّ من الخَلَفِ، وعلى هذا يجيء قولُه { مَن لَّعَنَهُ } مفسِّراً لنفس "ذلك"، وإنْ كان ضميرَ أهلِ الكتاب وهو قولُ عامةِ المفسرين فيُشْكِل ويحتاج إلى جواب.
ووجهُ الإِشكالِ أنه يصيرُ التقديرُ: "هل أنبِّئكم يا أهلَ الكتاب بشرٍّ من ذلك، و"ذلك" يُراد به المنقومُ وهو الإِيمان، وقد عُلِم أنه لا شرَّ في دينِ الإِسلام البتةَ، وقد أجابَ الناسُ عنه، فقال الزمخشري عبارةً قَرَّر بها الإِشكالَ المتقدمَ، وأجابَ عنه بعد أَنْ قال: "فإنْ قلت: المثوبةُ مختصةٌ بالإِحسان فكيف وَقَعَتْ في الإِساءةِ؟ قلت: وُضِعَتْ موضعَ عقوبةٍ فهو كقوله:
1749- ...................... تحيةُ بينِهم ضَربٌ وَجيعُ
ومنه { { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [آل عمران: 21]، وتلك العبارةُ التي ذكرتُها لك هي أن قال: "فإنْ قلت: المعاقَبُ من الفريقين هم اليهودُ، فلِمَ شُورك بينهم في العقوبة؟ قلت: كان اليهودُ - لُعِنوا - يزعمون أن المسلمين ضالُّون مستوجبون للعقوبة، فقيل لهم: مَنْ لعنه الله شرٌّ عقوبةً في الحقيقة واليقينِ من أهل الإِسلام في زعمكم ودعواكم" وفي عبارته بعضُ علاقة وهي قوله: "فلِمَ شُورك بينهم" أي: بين اليهود وبين المؤمنين، وقوله: "من الفريقين" يعني بهما أهلَ الكتاب المخاطبين بـ "أنبِّئكم" ومَنْ لعنه الله وغَضِب عليه، وقوله "في العقوبة" أي: التي وَقَعَت المثوبةُ / موقعَها، ففسَّرها بالأصل، وفَسَّر غيرُه المثوبةَ هنا بالرجوعِ إلى الله تعالى يومَ القيامة، ويترتَّب على التفسيرين فائدةٌ ستظهرُ لك قريباً.
و"مثوبةً" نصبٌ على التمييز، ومميِّزُها "شَرٌّ" وقد تقدم في البقرة الكلامُ على اشتقاقِها ووزنِها فَلْيلتفت إليه. وقوله: { عِندَ ٱللَّهِ } فيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلقٌ بنفسِ "مَثُوبة" إنْ قُلْنا إنها بمعنى الرجوع، لأنك تقول: "رَجَعْتُ عنده" والعندية هنا مجازية. والثاني: أنه متعلق بمحذوف لأنه صفة لـ "مثوبة"، وهو في محلِّ نصبٍ إنْ قلنا: إنها اسمٌ محض، وليست بمعنى الرجوع بل بمعنى عقوبة.
وقرأ الجمهور: { أُنَبِّئكم } بتشديد الباء من "نَبَّأ" وقرأ إبراهيم النخعي ويحيى بن وثاب: "أُنْبِئُكم" بتخفيفها من "أنبأ" وهما لغتان فصيحتان. والجمهور أيضاً على "مَثُوبة" بضم الثاء وسكون الواو، وقرأ الأعرج وابن بريدة ونبيح وابن عمران: "مَثْوبة" بسكون الثاء وفتح الواو، وجعلها ابن جني في الشذوذ كقولهم "فاكهة مَقْوَدَةٌ للأذى" بسكون القاف وفتح الواو، يعني أنه كان من حقها أن تُنْقَلَ حركةُ الواو إلى الساكن قبلها، وتٌقْلَبَ الواوُ ألفاً، فيقا: مثابة ومَقادة كما يقال: "مَقام" والأصل: "مَقْوَم".
قوله تعالى: { مَن لَّعَنَهُ } في محل ["مَنْ"] أربعة أوجه، أحدها: أنه في محل رفع على خبر مبتدأ مضمر تقديره: هو مَنْ لعنه الله، وقَدَّر مكي قبله مضافاً محذوفاً، قال: "تقديرُه: لَعْنُ مَنْ لعنه الله" ثم قال: وقيل: "مَنْ" في موضعِ خفضٍ على البدلِ مِنْ "بشرِّ" بدلِ الشيء من الشيء وهو هو، وكان ينبغي له أن يقدِّر في هذا الوجه مضافاً محذوفاً كما قَدَّره في حالة الرفع، لأنه إنْ جَعل "شراً" مراداً به معنًى لزمه التقدير في الموضعين، وإن جعله مراداً به الأشخاصُ لَزمه ألاَّ يُقَدِّر في الموضعين. الثاني: أنه في محل جر كما تقدَّم بيانُه عن مكي. الثالث: أنه في محلِّ نصبٍ على البدل من محل "بشر". الرابع: أنه في محلِّ نصبٍ على منصوبٌ بفعلٍ مقدَّر يدل عليه "أُنَبِّئكم" تقديره: أُعَرِّفكم مَنْ لعنه الله، ذكره أبوالبقاء، و"مَنْ" يُحْتَمل أن تكونَ موصولة وهو الظاهرُ، ونكرةً موصوفة. فعلى الأول لا محلَّ للجملة التي بعدها، وعلى الثاني لها محلٌّ بحسب ما يُحْكَمُ على "مَنْ" بأحد الأوجه السابقة، وقد حَمَل على لفظِها أولاً في قوله "لعنه" و"عليه" ثم على معناها في قوله: { مِنْهُمُ ٱلْقِرَدَةَ }، ثم على لفظها في قوله: { وَعَبَدَ ٱلطَّاغُوتَ } ثم على لفظِها في قوله: { أُوْلَـٰئِكَ } فجَمَع في الحمل عليها أربع مرات.
و"جَعَل" هنا بمعنى "صَيَّر" فيكون "منهم" في محل نصب مفعولاً ثانياً، قُدِّم على الأول فيتعلق بمحذوف أي صَيَّر القردة والخنازير كائنين منهم، وجعلَها الفارسي في كتاب "الحجة" له بمعنى خلق. قال ابن عطية "وهذه منه -رحمه الله - نزعةٌ اعتزالية لأنه قوله:{ وَعَبَدَ ٱلطَّاغُوتَ } تقديره: ومَنْ عبد الطاغوت" والمعتزلة لا ترى أن الله تعالى يصيِّر أحداً عابدَ طاغوت" انتهى. والذي يُفَرٌّ منه في التصيير هو بعينه موجودٌ في الخلق، وللبحث فيه موضع غير هذا تعرضت له في التفسير الكبير. وجَعَلَ الشيخ قوله تعالى "مَنْ لعنَه الله" إلى آخره مِنْ وَضْعِ الظاهر موضعَ المضمرِ تنبيهاً على الوصف الذي به حصل كونهم شراً مثوبةً، كأنه قيل: قل هل أنبِّئكم بشرٍّ من ذلك عند الله مثوبة؟ أنتم، أي: هم أنتم، ويَدُلُّ على هذا المعنى قوله بعد: { وَإِذَا جَآءُوكُمْ قَالُوۤاْ آمَنَّا } فيكون الضميرُ واحداً، وجَعَل هذا هو الذي تقتضيه فصاحةُ الكلام. وقرأ أُبَيّ بن كعب وعبد الله بن مسعود: "مَنْ غَضِب الله عليهم وجعلَهم قردةً" وهي واضحةٌ.
قوله: { وَعَبَدَ ٱلطَّاغُوتَ } في هذه الآية أربعٌ وعشرون قراءةً اثنتان في السبع، وهما "وعَبَد الطاغوتَ" على أن "عَبَد" فعلٌ ماضٍ مبني للفاعل، وفيه ضميرٌ يعودُ على "مَنْ" كما تقدم، وهي قراءة جمهور السبعة غيرَ حمزة. والثانية: و"عَبُدَ الطاغوتِ" بضم الباء وفتح الدال وخفض الطاغوت، وهي قراءةُ حمزة -رحمه الله - والأعمش ويحيى بن وثاب. وتوجيههُا كما قال الفارسي وهو أن "عَبُداً" واحدٌ يُراد به الكثرةُ مثلَ قوله تعالى: { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا } } [إبراهيم: 34] وليس بجمع "عبد" لأنه ليس في أبنيةِ الجمعِ مثلُه. قال: "وقد جاء على فَعُل لأنه بناء يُراد به الكثرةُ والمبالغةُ في نحو يَقُظ ونَدُس كأنه قد ذهب في عبادة الطاغوت كلَّ مذهب، وبهذا المعنى أجاب الزمخشري أيضاً، قال -رحمه الله تعالى -: "معناه الغلُوُّ في العبودية كقولهم: "رجل حَذُر وفَطُن" للبليغ في الحذر والفطنة، وأنشدَ لطَرَفة:
1750- أبني لُبَيْنَى إنَّ أمَّكُمُ أَمَةٌ، وإنَّ أباكُمُ عَبُدُ
وقد سَبَقهما إلى هذا التوجيهِ أبو إسحاق، وأبو بكر بن الأنباري، قال أبو بكر: "وضُمَّتِ الباءُ للمبالغةِ كقولِهم للفَطِن: "فَطُن" وللحَذِر: "حَذُر"، يَضُمُّون العين للمبالغة، قال أوس بن حجر:
-أبني لُبَيْنَى إنَّ أُمَّكُمُ أَمَةٌ، وإنَّ أباكُمُ عَبُدُ
فضمَّ الباء، قلت: كذا نَسَب البيتَ لابن جحر، وقد قَدَّمْتُ أنه لطرفة، ومِمَّنْ نَسَبه لطرفةَ الشيخُ شهاب الدين أبو شامة. وقال أبو إسحاق: "ووجْهُ قراءِة حمزةَ أنَّ الاسمَ بُنِي على فَعُل كما تقول: "رجلٌ حَذُر" وتأويلُه أنه مبالغٌ في الحذر / فتأويلُ "عَبُد" أنَّه بَلَغ الغايةَ في طاعة الشيطان، وكأنَّ هذا اللفظَ لفظٌ واحدٌ يَدُلُّ على الجمعِ كما تقول للقوم "عَبُد العَصا" تريدُ عبيد العصا، فأخذ أبو عليّ هذا وبَسَطه بما ذَكَرْتُه عنه، ثم قال "وجاز هذا البناءُ في عَبْد لأنه في الأصلِ صفةٌ، وإن كان قد استُعْمِل استعمالَ الأسماءِ، لا يُزيل ذلك عنه حكمَ الوصفِ كالأبطح والأبرق استُعْمِلا استعمالَ الأسماءِ حتى جُمِعا جَمْعَها في قولهم: أبارق وأباطح كأجادِل جمع الأجْدَل ثم لم يُزِلْ ذلك عنهما حكمَ الصفة، يَدُلُّك على ذلك مَنْعُهم له الصرفَ كأحمر، وإذا لم يَخْرج العبدُ عن الصفة لم يمتنعْ أَنْ يُبنى بناءَ الصفات على فَعُل نحو: "يَقُظ"، وإنما أَشْبَعْتُ العبارةَ هنا لأن بعض الناس طَعَن على هذه القراءة ونسب قارئها إلى الوهم كالفراء والزجاج وأبي عبيد ونصير الرازي النحوي صاحب الكسائي. قال الفراء: "إنما يجوز ذلك في ضرورةِ الشعر - يعني ضمَّ باء "عَبُد" فأمَّا في القراء فلا" وقال أيضاً: "إنْ تكن لغةً مثلَ حَذُر وعَجُل جاز ذلك، وهو وجهٌ، وإلاَّ فلا تجوزُ في القراءة" وقال الزجاج: "هذه القراءةُ ليست بالوجهِ لأنَّ عَبُداً على فَعُل، وهذا ليس من أمثلةِ الجمعِ" وقال أبو عبيد: "إنما معنى العَبُد عندهم الأعبُد، يريدون خدَمَ الطاغوتِ، ولم نجد هذا يَصِحُّ عن أحد من فصحاء العرب أن العَبْد يقال فيه عَبُد وإنما هو عَبْد وأَعْبُد" وقال نصير الرازي "هذا وَهْمٌ مِمَّن قرأ به فليتقِ الله مَنْ قرأ به، وليسألْ عنه العلماء حتى يوقفَ على أنه غير جائز" قلت: قد سألوا عن ذلك العلماءَ ووجدوه صحيحاً في المعنى بحمد الله تعالى، وإذا تواتر الشيء قرآناً فلا التفاتَ إلى مُنْكرِه لأنه خَفِيَ عنه ما وَضَح لغيره.
وأمَّا القراءاتُ الشاذةُ فقرأ أُبَيّ: و"عَبَدُوا" بواوِ الجمع مراعاةً لمعنى "مَنْ" وهي واضحةٌ. وقرأ الحسن البصري في رواية عَبَّاد و"عَبْدَ الطاغوت" بفتح العين والدال وسكون الباء ونصب التاء من "الطاغوت" وخَرَّجها ابن عطية على وجهين احدهما: أنه أراد: "وعَبْداً الطاغوت" فحذف التنوينَ من "عبداً" لالتقاء الساكنين كقوله:
1751- .................. ولا ذاكرَ اللّهَ إلا قليلا
والثاني: أنه أراد "وعبَد" بفتح الباء على أنه فعلٌ ماضٍ كقراءة الجماعة إلا أنه سَكَّن العينَ على نحوِ ما سَكَّنها في قول الآخر:
1752- وما كلُّ مغبونٍ ولو سَلْفَ صَفْقُهُ ...................
بسكون اللام، ومثله قراءةُ أبي السمال: { ولُعْنوا بما قالوا } بسكون العين، قلت: ليس ذلك مثلَ "لُعْنوا" لأنَّ تخفيف الكسر مقيس بخلاف الفتح ومثلُ "سَلْفَ" قولُ الآخر:
1753- إنما شِعْريَ مِلْحٌ قد خُلْطَ بجُلْجُلانْ
من حيث إنه خَفَّف الفتحة. وقال الشيخ - بعد أن حكى التخريج الأول عن ابن عطية -: "وهذا التخريجُ لا يَصِحُّ لأنَّ عَبْداً لايمكن أن ينصبَ الطاغوت، إذ ليس بمصدرٍ ولا اسمِ فاعل، فالتخريجُ الصحيح أن يكونَ تخفيفاً من "عَبَدَ" كـ "سَلْف" في "سَلَفْ" قلت: لو ذكر التخريجين عن ابن عطية، ثم استشكلَ الأولَ لكان إنصافاً لئلا يُتَوَهَّم أن التخريجَ الثاني له. ويمكن أن يقال: إنَّ "عَبْداً" لِما في لفظه من معنى التذلل والخضوعِ دَلَّ على ناصبٍ للطاغوت حُذِفَ، فكأنه قيل: مَنْ يعبُد هذا العبدَ؟ فقيل: يعبُد الطاغوتَ، وإذا تقرَّر أنَّ "عَبْدَ" حُذِفَ تنوينُه فهو منصوبٌ عطفاً على القردة، أي: وجعلَ منهم عَبْداً للطاغوت.
وقرأ الحسن أيضاً في روايةٍ أخرى كهذه القراءة، إلا أنه جَرَّ "الطاغوت" وهي واضحةٌ فإنه مفرد يُراد به الجنسُ أُضيف إلى ما بعده. وقرأ الأعمش والنخعي وأبو جعفر: "وعُبِد" مبنياً للمفعول، "الطاغوتُ" رفعاً. وقرأ عبد الله كذلك إلا أنَّه زادَ في الفعلَ تاءَ التأنيث، وقرأ: "وعُبِدَتِ الطاغوتُ" والطاغوت يذكر ويؤنث، قال تعالى: { { وَٱلَّذِينَ ٱجْتَنَبُواْ ٱلطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا } [الزمر: 17]، وقد تقدَّم في البقرة قال ابن عطية: "وضَعَّفَ الطبري هذه القراءةَ، وهي متجهةٌ" يعني قراءةَ البناءِ للمعفول، ولم يبيِّنْ وجهَ الضعفِ ولا توجيهَ القراءة، ووجهُ الضعفِ أنه تخلو الجملة المعطوفة على الصلةِ من رابطٍ يربُطها بالموصولِ، إذ ليس في "عُبِد الطاغوتُ" ضميرٌ يعودُ على { مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ } لو قلت: أكرمت الذين أهنتُم وضُرِب زيدٌ "على أن يكون "وضُرِب" عطفاً على "أكرمت" لم يَجُزْ، فكذلك هذا. وأمَّا توجيهُها فهو كما قال أبو القاسم الزمخشري: "إنَّ العائدَ محذوفٌ تقديرُه: "وعُبِد الطاغوتُ فيهم أو بينهم".
وقرأ ابن مسعود في روايةِ عبد الغفار عن علقمة عنه: { وعَبُدَ الطاغوتُ } بفتح العين وضمِّ الباء وفتحِ الدالِ ورفعِ الطاغوت، وفيها تخريجان، أحدُهما: - ما ذكرَه ابن عطية - وهو أن يصيرَ له أَنْ عُبِد كالخُلُقِ والأمرِ المعتاد المعروف، فهو في معنى فَقُه وشَرُف وظَرُف، قلت: يريد بكونِه في معناه أي: صار له الفقهُ والظرفُ خُلُقاً معتاداً معروفاً، وإلاَّ فمعناه مغايرٌ لمعاني هذه الأفعالِ والثاني:- ما ذكرَه الزمخشري - وهو أَنْ صارَ معبوداً من دونِ الله كـ "أمُر" أي: صار أميراً، وهو قريبٌ من الأولِ وإنْ كان بينهما فرقٌ لطيفٌ.
وقرأ ابن عباس في رواية عكرمة عنه ومجاهد / ويحيى بن وثاب: و{ وعُبُدَ الطاغوتِ } بضم العين والباء وفتح الدال وجر "الطاغوت" وفيها أقوال، أحدها: ـ وهو قول الأخفش - أنَّ عُبُداً جمع عبيد، وعبيد جمعُ عَبْد فهو جمعٌ الجمعِ، وأنشد:
1754- أنسُبِ العبدَ إلى آبائِه أسودَ الجِلْدَةِ من قومٍ عُبُدْ
وتابعه الزمخشري على ذلك، يعني أنَّ عبيداً جمعاً بمنزلة رغيف مفرداً فيُجْمع جمعَه كما يُقال: رغيف ورُغُف. الثاني - وهو قولُ ثعلب - أنه جمعُ عابد كشارف وشُرُف، وأنشد:
1755- ألا يا حَمْزُ للشُّرُفِ النَّواءِ فهنَّ مُعَقِّلاتٌ بالفِناءِ
والثالث: أنه جَمْعُ عَبْد كسِقْف وسُقُف ورَهْن ورُهُن. والرابع: أنه جمع عِباد، وعِباد جمعُ "عَبْد" فيكونُ أيضاً جمعَ الجمعِ مثل "ثِمار" هو جمع "ثَمَرة" ثم يُجْمع على "ثُمُر" وهذا لأنَّ عِباداً وثِماراً جمعين بمنزلة كتاب مفرداً، وكتاب يجمع على كُتُب فكذلك ما وازَنَه.
وقرأ الأعمش: "وعُبَّدَ" بضمِّ العينِ وتشديدِ الباءِ مفتوحةً وفتحِ الدال، "الطاغوت" بالجرِّ، وهي جمع عابِد كضُرَّب في جمع ضارِب وخُلَّص في جمع خالِص. وقرأ ابنُ مسعود أيضاً في رواية علقمة: { وعُبَدَ الطاغوت } بضمِّ العين وفتح الباء والدالِ. و"الطاغوتِ" جَرَّا، وتوجيهُها أنه بناءُ مبالغةٍ كحُطَم ولُبَد وهو اسمُ جنسٍ مفردٍ يُراد به الجمعُ، والقولُ فيه كالقول في قراءةِ حمزة وقد تقدَّمَتْ.
وقرأ ابن مسعود في رواية علقمةَ أيضاً: و{ وعُبَّدَ الطاغوتَ } بضمِّ العين وبشد الباء مفتوحة وفتح الدال ونصب "الطاغوت" وخَرَّجها ابن عطية على أنها جمعُ عابد كضُرِّب في جمع ضارب، وحَذَف التنوين من "عبدا" لالتقاء الساكنين كقوله:
1756- ................ ولا ذاكرَ اللّهَ إلا قليلا
قال: "وقد تقدَّم نظيرُه" يعني قراءةَ: { وعَبْدَ الطاغوتَ } بفتح العين والدال وسكونِ الباءِ ونصبِ التاء، وكان ذَكَر لها تخريجين، أحدُهما هذا، والآخرُ لا يمكنُ وهو تسكينُ عينِ الماضي. وقرأ بريدة الأسلمي فيما نقلَه عنه ابنُ جرير: "وعابِد الشيطانِ" بنصبِ "عابد" وجَرِّ "الشيطان" بدلَ الطاغوت وهو تفسيرٌ لا قراءةٌ. وقرأ أبو واقد الأعرابي: { وعُبَّاد } بضمِّ العينِ وتشديدِ الباءِ بعدها ألف ونصبِ الدال، والطاغوتِ بالجر، وهي جمعُ عابد كضُرًَّاب في ضارب.
وقرأ بعضُ البصريين: "وعِبادَ الطاغوتِ" بكسرِ العين، وبعد الباء المخففة ألف، ونصب الدال وجَرِّ "الطاغوت" وفيها قولان: أحدهما: أنه جمع عابِد كقائِم وقِيام، وصائِم وصِيام. والثاني: أنها جمعُ عَبْد، وأنشد سيبويه:
1757- أتوعِدُني بقومِك يابنَ حَجْلٍ أُشاباتٍ يُخالُون العِبادَا
قال ابن عطية: "وقد يجوزُ أن يكونَ جمعَ "عَبْد"، وقلما يأتي "عِباد" / مضافاً إلى غيرِ الله تعالى، وأَنْشَد سيبويه: "أتُوْعِدُني" البيت قال أبو الفتح: يريد عبادَ آدم عليه السلام، ولو أراد عباد الله فليس ذلك بشيء يُسَبُّ به أحدٌ، فالخَلْقُ كلُّهم عبادُ الله" قال ابن عطية: "وهذا التعليقُ بآدم شاذٌّ بعيدٌ والاعتراضُ باقٍ، ولي هذا مِمَّا تخيَّل الشاعرُ قصدَه، وإنما أرادَ العبيد فساقَتْه القافيةُ إلى العباد، إذ قد يُقال لِمَنْ يملكه مِلْكاً ما، وقد ذكر أن عربَ الحيرة سُمُّوا عِباداً لدخولهم في طاعةِ كِسْرى فدانَتْهم مملكتُه" قلت: قد اشْتَهَر في ألسنةِ الناس أن "عَبْدا" المضافَ إلى الله تعالى يُجْمَعُ على "عِباد" وإلى غيره على "عبيد"، وهذا هو الغالبُ، وعليه بنى أبو محمد.
وقرأ عون العقيلي في روايةِ العَبَّاس بن الفضل عنه: "وعابِدُ الطاغوتِ" بضمِّ الدالِ وجَرِّ الطاغوت كضاربِ زيدٍ. قال أبو عمرو: تقديرُه: "وهم عابدُ الطاغوت" قال ابن عطية: "فهو اسمُ جنسٍ" قلت: يعني انه أرادَ بـ "عابِد" جماعةً، قتل: وهذه القراءةُ يجوز أن يكونَ أصلُها: "وعابدو الطاغوت" جَمْعَ عابد جمعَ سلامةٍ، فلمَّا لَقِيت الواوُ لامَ التعريف حُذِفَتْ لالتقاء الساكنين، فصار اللفظُ بدالٍ مضمومةٍ، ويؤيِِّد فَهْمَ هذا أنَّ أبا عمرو قَدَّر المبتدأ جَمْعاً فقال: "تقديرُه: هم عابدو" اللهم إلا أَنْ ينقلُوا عن العقيلي أنه نَصَّ علي قراءتِه أنها بالإِفراد، أو سمعوه يقف على "عابد" أو رَأَوْا مصحفَه بدالٍ دونَ واوٍ، وحينئذ تكونُ قراءتُه كقراءةِ ابن عباس: { وعابدو } بالواوِ، وعلى الجملة فقراءتُهما متحدةٌ لفظاً، وإنَّما يَظْهَرُ الفرقُ بينهما على ما قالُوه في الوقفِ أو الخطِّ.
وقرأ ابنُ عباس في روايةٍ أخرى لعكرمة: "وعابِدُوا" بالجمعِ، وقد تقدَّم ذلك. وقرأ ابن بُرَيْدة: "وعابد" بنصبِ الدالِ كضاربِ زيدٍ، وهو أيضاً مفردٌ يُراد به الجنسُ. وقرأ ابن عباس وابن أبي عبلة: { وعَبَد الطاغوتِ } بفتحِ العينِ والباءِ والدال وجَرِّ الطاغوت، وتخريجُها أنَّ الأصلَ: "وعبدةً الطاغوت" وفاعِل يُجْمَعُ على فَعَلَة كفاجِر وفَجَرة، وكافِر وكَفَرة، فحُذِفَتْ تاءُ التأنيثِ للإِضافة كقوله:
1758- قام وُلاها فسقَوْه صَرْخَدا
أي: ولاتُها، وكقوله:
1759- ............... وأَخْلَفُوك عِدَ الأمرِ الذي وَعَدُوا
أي: عدةَ الأمر، ومنه: { { وَإِقَامَ ٱلصَّلَٰوة } [الأنبياء: 73] أي: إقامةِ الصلاة، ويجوزُ أَنْ يكونَ "عَبَدَ" اسمَ جنسٍ لعابد كخادِم وخَدَم / وحينئذ فلا حَذْفَ تاءِ تأنيثٍ لإِضافة. وقُرِئ: "وعَبَدَة الطاغوت" بثبوتِ التاء وهي دالَّةٌ على حَذْفِ التاء للإِضافة في القراءةِ قبلَها، وقد تقدَّم توجيهُها أنَّ فاعِلاً يُجْمَعُ على "فَعَلَة" كبارّ وبَرَرة وفاجِر وفَجَرة.
وقرأ عبيد بن عمير: "وأعْبُد الطاغوت" جمع عبد كفَلْس وأَفْلُس وكَلْب وأَكْلُب. وقرأ ابن عباس: "وعبيد الطاغوت" جمع عبدٍ كفَلْس وأَفْلُس وكَلْب وأَكْلُب. وقرأ ابن عباس: "وعبيد الطاغوت" وجمعَ عبدٍ ايضاً وهو نحو: كلب وكليب" قال:
1760- تَعَفَّق بالأَرْطَى لها وأرادَها رجالٌ فَبَذَّتْ نبلَهُمْ وكَلِيبُ
وقُرئ أيضاً: "وعابدي الطاغوت" وقرأ عبد الله بن مسعود: "ومَنْ عَبَدوا" فهذه أربعٌ وعشرون قراءةً، وكان ينبغي ألاَّ يُعَدَّ فيها: "وعابد الشيطان" لأنها تفسيرٌ لا قراءة. وقال ابن عطية: "وقد قال بعضُ الرواة في هذه الآية: إنها تجويزٌ لا قراءةٌ" يعني لَمَّا كَثُرت الرواياتُ في هذه الآيةِ ظنَّ بعضُهم أنه قيل على سبيلِ الجواز لا أنها منقولةٌ عن أحدٍ، وهذا لا ينبغي أَنْ يُقال ولا يُعْتقدَ فإنَّ أهلَها إنما رَوَوْها قراءةً تَلَوها على مَنْ أخذوا عنه، وهذا بخلاف و"عابد الشيطان" فإنَّه مخالفٌ للسواد الكريم.
وطريقُ ضبطِ القراءةِ في هذا الحرفِ بعدَما عُرِفَ القراء أن يقال: سبع قراءات مع كونِ "عَبَد" فعلاً ماضياً وهي: وعَبَد وعَبَدُوا ومَنْ عَبَدوا وعُبِد وعُبِدَت وعَبُدَ وعَبْدَ في قولِنا: إنَّ الباء سَكَنَتْ تخفيفاً كسَلْفَ في سَلَف، وتسعُ قراءاتٍ مع كونِه جمعَ تكسيرٍ وهي: وعُبُدَ وعُبَّد مع جَرِّ الطاغوت وعُبَّد مع نصبه وعُبَّاد وعِباد وعَبَدَ على حَذْفِ التاءِ للإِضافةِ وعَبَدَة وأَعْبُد وعبيد، وست مع المفرد: وعَبُدَ وعُبَدَ وعابدَ الطاغوت وعابدُ الطاغوت بضم الدال وعابد الشيطان وعَبْدَ الطاغوت، وثنِتان مع كونه جمعَ سلامة: وعابِدوا بالواو وعابدي بالياء. فعلى قراءةِ الفعل يجوز في الجملةِ وجهان، أحدهما: أن تكونَ معطوفةً على الصلة قبلها والتقدير: مَنْ لعنَه الله وعَبَد الطاغوت. والثاني: أنه ليس داخلاً في حَيِّز الصلةِ، وإنما هو على تقديرِ مَنْ أي: ومَنْ عَبَد، ويدلُّ له قراءة عبد الله بإظهارِ "مَنْ" إلاَّ أنَّ هذا - كما قال الواحدي - يؤدِّي إلى حَذْفِ الموصولِ وإبقاءِ صلتِه، وهو ممنوعٌ عند البصريين، جائزٌ عند الكوفيين، وسيأتي جميعُ ذلك في قولِه تعالى: { { وَقُولُوۤاْ آمَنَّا بِٱلَّذِيۤ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ } [العنكبوت: 46] أي: وبالذي أُنْزل. وعلى قراءةِ جمع التكسير فيكون منصوباً عطفاً على القردة والخنازير أي: جَعَلَ منهم القردةَ وعِباد وعُبَّاد وعبيد، وعلى قراءةِ الإِفراد كذلك أيضاً، ويجوز النصبُ فيها أيضاً من وجهٍ آخرَ وهو العطفُ على "مَنْ" في { مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ } إذا قلنا بأنه منصوبٌ على ما تقدَّم تحريرُه قبلُ، وهو مرادٌ به الجنس، وفي بعضِها قُرئ برفعه نحو: "وعابدُ الطاغوت، وتقدَّم أن أبا عمرو يُقَدِّر له مبتدأ أي: هم عابد، وتقدَّم ما في ذلك، وعندي أنه يجوزُ ان يرتفعَ على أنه معطوفٌ على "مَنْ" في قولِه تعالى { مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ } ويَدُلُّ لذلك أنهم أجازوا في قراءِة عبدِ الله: "وعابدُو" بالواوِ هذين الوجهين فهذا مثله. وأما قراءة جمع السلامة فَمَنْ قرأ بالياء فهو منصوبٌ عطفاً على القردةِ، ويجوزُ فيه وجهان آخران، أحدُهما: أنه منصوبٌ عطفاً على "مَنْ" في { مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ } إذا قلنا إنَّ محلَّها نصبٌ كما مَرَّ. والثاني: أنه مجرورٌ عطفاً على { مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ } أيضاً إذا قُلنا بأنَّها في محلِّ جر بدلاً من "بشرِّ" كما تقدمَّ إيضاحُه. وهذه أوجهٌ واضحةٌ عَسِرة الاستنباطِ واللهُ أعلمُ. ومَنْ قَرأ بالواو فرفعُه: إمَّا على إضمارِ مبتدأ أي: هم عابدُو الطاغوت، وإمَّا نسقٌ على "مَنْ" في قولِه تعالى: { مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ } كما تقدَّم.
قوله تعالى: { أُوْلَـٰئِكَ شَرٌّ } مبتدأ وخبر، و"مكاناً" نصب على التمييز، نَسَب الشَّر للمكان وهو لأهلِه، كنايةً عن نهايتهِم في ذلك، و"شرّ" هنا على بابه من التفضيل، والمفضَّل عليه فيه احتمالان، أحدهما: أنهم المؤمنون، فيقال: كيف يُقال ذلك والمؤمنون لا شَرَّ عندهم البتة؟ فَأُجيب بجوابين، أحدُهما: - ما ذكره النحاس - وهو أنَّ مكانَهم في الآخرة شَرٌّ مِنْ مكانِ المؤمنين في الدنيا لِما يلحقُهم فيه من "الشر" يعني من الهمومِ الدنيويةِ والحاجةِ والإِعسار وسماعِ الأذى والهَضْم من جانبهم قال: "وهذا أحسنُ ما قيل فيه" لعَمْري لقد صدق فطالما يَلْقَى المؤمن من الأذى ويذوقُ من الحاجة كلَّ صابٍ وعَلْقم. والثاني من الجوابين: أنه على سبيل التنزيل والتسليم للخصم على زعمه إلزاماً له بالحجة، كأنه قيل: شَرٌّ من مكانهم في زعمكم، فهو قريب من المقابلة في المعنى. والثاني من الاحتمالين أنَّ المفضَّل عليه هم طائفة من الكفارِ، أي: أولئك الملعونون المغضوبُ عليهم المجعولُ منهم القردةُ والخنازيرُ العبادون الطاغوتَ شرٌّ مكاناً من غيرهم مِنَ الكفرة الذين لم يَجْمعوا بين هذه الخصالِ الذميمةِ.