التفاسير

< >
عرض

قُلْ يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ ٱلْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوۤاْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ
٧٧
-المائدة

الدر المصون

قوله تعالى: { غَيْرَ ٱلْحَقِّ }: فيه خمسة أوجه، أحدها: أنه نعت لمصدر محذوف أي: لا تَغْلُوا في دينكم غُلُوَّاً غيرَ الحق أي: غلوَّاً باطلاً، ولم يذكر الزمخشري غيره. الثاني: أنه منصوبٌ على الحال من ضمير الفاعل في "تَغْلُوا" أي: لا تَغْلوا مجاوزينَ الحق، ذكره أبو البقاء الثالث: أنه حالٌ من "دينكم" أي: لا تغلوا فيه وهو باطل، بل اغلُوا فيه وهو حَقٌّ، ويؤيد هذا ما قاله الزمخشري فإنه قال: "لأنَّ الغلوَّ في الدين غُلُوَّان: حقٌّ وهو أَنْ يُفْحص عن حقائِقه ويفتَّشَ عن أباعدِ معانيه ويُجْتَهَدَ في تحصيله حُجَجَه، وغلوٌ باطل: وهو أن يَتَجاوز الحقَّ ويتخطاه بالإِعراض عن الأدلة". الرابع: أنه منصوبٌ على الاستثناء المتصل. الخامس: على الاستثناءِ المنقطع. ذكرَ هذين الوجين الشيخُ عن غيره، واستبعدهما فإنه قال: "وأبعدَ مَنْ ذهب إلى أنها استثناءٌ متصل، ومَنْ ذهب إلى انها استثناءٌ منقعطع ويقدِّره بـ "لكن الحقَّ فاتبعوه" قلت: والمستثنى منه يَعْسُر تعيينُه، والذي يظهر فيه أنه قوله: { فِي دِينِكُمْ } كأنه قيل: لا تَغْلُوا في دينكم إلا الدين الحق فإنه يجوز لكم الغلوُّ فيه، ومعنى الغلو فيه ما تقدم من تقرير الزمخشري له.
وذكر الواحدي فيه الحالَ والاستثناء فقال: "وانتصابُ "غيرَ الحق" من وجهين، احدُهما: الحالُ والقطعُ من الدين كأنه قيل: لا تغُلُوا في دينكم مخالفين للحقِّ، لأنهم خالفوا الحقَّ في دينهم ثم غَلَوا فيه بالإِصرار عليه. والثاني: أن يكونَ منصوباً على الاستثناء، فيكون "الحق" مستثنًى من المَنْهِيِّ عن الغلوِّ فيه بأَنْ يجوزَ الغلوُّ فيما هو حق على معنى اتباعِه والثباتِ عليه. وهذا نصٌّ فيما ذكرْتُ لك من أنَّ المستثنى هو "دينُكم".
وتقدَّم معنى الغلوِّ في سورة النساء وظاهرُ هذه الأعاريب المتقدمةِ أنَّ "تَغْلُوا" فعلٌ لازم، وكذا نصَّ عليه أبو البقاء،إلا أن أهلَ اللغةِ يفسِّرونه بمعنى متعدٍّ، فإنهم قالوا: معناه لا تتجاوزوا الحد. قال الراغب: "الغلو تجاوزُ الحَدِّ، يقال ذلك إذا كان في السعر "غلاءً" وإذا كان في القَدْر والمنزلة "غُلُوَّا" وفي السهم "غَلْوا" وأفعالها جميعاً غلا يغلو، فعلى هذا يجوز أن ينتصب "غير الحق" مفعولاً به أي: لا تتجازوا في دينِكم غير الحق، فإنْ فَسَّرنا "تغلوا" بمعنى تتباعدوا من قولهم: "غلا السهمُ" أي: تباعدَ كانَ قاصراً، فيحتمل أن يكونَ مَنْ قال بأنه لازم أخذه من هذا لا من الأول.
قوله: { كَثِيراً } في نصبِه وجهان، أحدُهما: أنه / مفعولٌ به، وعلى هذا اكثرُ المتأوِّلين، فإنهم يفسِّرونه بمعنى: وأضَلُّوا كثيراً منهم أو من المنافقين. والثاني: أنه منصوبٌ على المصدرية أي: نعت لمصدر محذوف أي: إضلالاً كثيراً، وعلى هذا فالمفعول محذوف أي: أضَلُّوا غيرهم إضلالاً كثيراً.