التفاسير

< >
عرض

فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ ٱلنُّجُومِ
٧٥
-الواقعة

الدر المصون

قوله: { فَلاَ أُقْسِمُ }: قرأه العامَّةُ "فلا"، لامَ ألفٍ، وفيها أوجهٌ، أحدُها: أنها حرفُ نفي، وأنَّ المنفيَّ بها محذوفٌ، وهو كلامُ الكافرِ الجاحدِ تقديرُه: فلا حُجَّةَ لِما يقولُ الكافرُ، ثم ابتدأ قَسَماً بما ذَكَر، وإليه ذهب جماعةٌ من المفسِّرين والنَّحْويين. وضُعِّفَ هذا: بأنَّ فيه حَذْفَ اسمِ "لا" وخبرِها. قال الشيخ: "ولا يجوز" ولا ينبغي؛ فإن القائلَ بذلكَ مثلُ سعيدِ بنِ جُبير تلميذِ حَبْر القرآنِ وبحرِه عبدِ اللَّهِ ابن عباس رضي الله عنهما، ويَبْعُدُ أَنْ يقولَه سعيدٌ إلاَّ بتوقيف.
الثاني: أنها زائدةٌ للتوكيدِ، مِثْلُها في قولِه تعالى:
{ لِّئَلاَّ يَعْلَمَ } [الحديد: 29] والتقدير: فأُقْسِمُ، وليَعْلَمَ، وكقولِه:

4224ـ ......................... فلا وأَبي أعدائِها لا أَخُوْنُها

الثالث: أنَّها لامُ الابتداءِ. والأصلُ: فَلأُقْسِمُ فأُشْبِعَتْ الفتحةُ فتولَّد منها ألفٌ، كقولِه:

4225ـ أَعوذُ باللَّهِ من العَقْرابِ

قاله الشيخُ، واستشهدَ بقراءةِ هشام "أَفْئِيْدَة". قلت. وهذا ضعيفٌ جداً، واستند أيضاً لقراءةِ الحسن وعيسى/ "فَلأُقْسِمُ" بلامٍ واحدةٍ. قلت: وفي هذه القراءةِ تخريجان أحدُهما: أنَّ اللامَ لامُ الابتداءِ، وبعدَها مبتدأٌ محذوفٌ، والفعلُ خبرُه، فلمَّا حُذِفَ المبتدأُ اتصلَتْ اللامُ بخبرِه وتقديرُه: فلأَنا أٌقْسِمُ نحو: لَزيدٌ منطلقٌ، قاله الزمخشري وابن جني. والثاني: أنها لامُ القسمِ دخَلَتْ على الفعل الحالي. ويجوز أَنْ يكونَ القسم جواباً للقسمِ كقوله: { وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا } [التوبة: 107] فنفسُ "ليَحْلِفُنَّ" قسمٌ جوابُه "إنْ أرَدْنَا" وهو جوابٌ لقسمٍ مقدرٍ، كذلك هذا، وهو قولُ الكوفيين: يُجيزون أَنْ يُقْسَم على فعلِ الحالِ. البصريُّون يَأْبَوْنه ويُخَرِّجون ما يُوهم ذلك على إضمار مبتدأ فيعود القسم على جملةٍ اسمية. ومنع الزمخشري أن تكونَ لامَ القسمِ قال: "لأمرَيْن، أحدهما: أنَّ حَقَّها أَنْ تُقْرَنَ بالنونِ المؤكدةِ، والإِخلالُ بها ضعيفٌ قبيحٌ. والثاني: أنَّ لأفعلنَّ في جواب القسم للاستقبالِ، وفعلُ القسمِ يجب أَنْ يكونَ للحال" وهذا كما تقدَّم أنه يرى مذهبَ البَصرْيين، ومعنى قولِه: "وفعلُ القَسَمِ يجبُ أنْ يكونَ للحال" يعني أنَّ فِعْلَ القسمِ إنشاءٌ والإِنشاءُ حالٌ. وإمَّا قولُه: "أَنْ يُقْرن بها النونُ" هذا مذهبُ البصريين. وأمَّا الكوفيون فيجيزون التعاقبَ بين اللام والنونِ نحو: واللَّهِ لأَضْرِبُ زيداً كقولِه:

4226ـ لَئِن تَكُ قد ضاقَتْ عليكم بيوتُكمْ لَيَعْلَمُ ربِّي أنَّ بيتيَ واسعُ

وواللَّهِ اضربَنَّ زيداً كقولِه:

4227ـ وقتيلُ مُرَّةَ أَثْأَرَنَّ ....................................

وقد تقدَّم قريبٌ من هذه الآية في قولِه تعالى: { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ } [النساء: 65] ولكن هناك ما لا يُمْكن القولُ به هنا كما أنَّ هنا ما لا يمكن القولُ به هناك، وسيأتي قريبٌ منه في القيامةِ في قراءةِ ابن كثير { لأُقْسِمُ بيوم القيامة } [القيامة: 1].
وقرأ العامَّة "بمواقِع" جمعاً، والأخَوان "بموقع" مفرداً بمعنى الجمع لأنَّه مصدرٌ فوُحِّدَ، ومواقعُها: مَساقِطُها ومَغارِبُها. وقيل: سُقوطُها يوم تَنْكَدِرُ. وقيل: النجومُ للقرآن، ويؤيِّدُه "وإنَّه لَقَسَمٌ"، و { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } والمُقْسَمُ عليه قولُه: { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } وعلى هذا فيكونُ في الكلام اعتراضان، أحدُهما: الاعتراضُ بقوله: "وإنه لَقَسَمٌ" بين القسمِ والمُقْسَم عليه، والثاني: الاعتراضُ بقولِه: "لو تعلمون" بين الصفةِ والموصوفِ. وأبى ابنُ عطية أَنْ يُجْعَلَ قولُه: "وإنَّه لَقَسَمٌ" اعتراضاً فقال: "وإنه لَقَسَمٌ" تأكيدٌ للأمرِ وتنبيهُ المُقْسَم به، وليس هذا باعتراضٍ بين الكلامَيْن، بل هذا معنىً قُصِدَ التَّهَمُّمُ به، وإنما الاعتراضُ قولُه: "لو تعلمون" قلت: وكونُه تأكيداً ومُنَبِّهاً على تعظيمِ المُقْسَمِ به لا يُنافي الاعتراضَ بل هذا معنى الاعتراضِ وفائدتُه.