التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ
٥٢
-الأنعام

الدر المصون

قوله: { بِٱلْغَدَاةِ }: قرأ الجمهور: "بالغداة" هنا وفي الكهف وابن عامر: { بالغُدْوة } بضم الغين وسكون الدال وفتح الواو في الموضعين، وهي قراءة أبي عبد الرحمن السلمي والحسن البصري ومالك بن دينار وأبو رجاء العطاردي ونصر بن عاصم الليثي. والأشهر في "الغُدْوة" أنها معرفة بالعلمية، وهي علميَّة الجنس كأسامة في الأشخاص ولذلك مُنِعت من الصرف قال الفراء: "سمعت أبا الجراح يقول: ما رأيت كغدوة قط، يريد: غداة يومه" قال: "ألا ترى أن العرب لا تضيفها، فكذا لا يدخلها الألف واللام، إنما يقولون: جئتك غداة الخميس" وقال الفراء في كتاب "المعاني" في سورة الكهف: "قرأ عبد الرحمن السلمي: { بالغُدْوَة والعَشِي } ولا أعلم أحداً قرأ بها غيره، والعرب لا تُدْخل الألف واللام في "الغدوة" لأنها معرفة بغير ألف ولام" فذكره إلى آخره.
وقد طعن أبو عبيد القاسم بن سلام على هذه القراءة فقال: "إنما نرى ابن عامر والسلمي قرآ تلك القراءة إتباعاً للخط، وليس في إثبات الواو في الكتاب دليل على القراءة بها، لأنهم كتبوا الصلاة والزكاة بالواو ولفظُهما على تَرْكها، وكذلك الغداة، على هذا وجدنا العرب". وقال الفارسيُّ: "الوجه قراءة العامة بالغداة، لأنها تستعمل نكرة ومعرفة بالام، فأمَّا "غُدْوَة" فمعرفة وهو عَلَمٌ وُضِع للتعريف، وإذا كان كذلك فلا ينبغي أن تدخل عليه الألف واللام للتعريف، كما لا تَدْخُل على سائر الأعلام، وإن كانت قد كُتِبَتْ بالواو لأنها لا تدلُّ على ذلك. ألا ترى الصلاة والزكاة بالواو ولا تُقرآن بها، فكذلك الغداة. قال سيبويه: "غُدْوة وبُكْرة جُعِل كلُّ واحد منهما اسماً للحين، كما جعلوا "أم حُبَيْن" اسماً لدابَّةٍ معروفة". إلا أنَّ هذا الطعنَ لا يُلتفت إليه، وكيف يُظَنُّ بمَنْ تَقَدَّم أنهم يَلْحنون، والحسن البصري ممن يُسْتَشْهد بكلامِه فضلاً عن قراءته، نصر بن عاصم شيخ النحاة أخذ هذا العلمَ عن أبي الأسود ينبوعِ الصناعة، وابن عامر لا يَعْرف اللحن لأنه عربي، وقرأ على عثمان بن عفان وغيره من الصحابة، ولكن أبا عبيد -رحمه الله - لم يعرف أن تنكير "غدوة" لغةُ ثانية عن العرب حكاها سيبويه والخليل.
قال سيبويه: "زعم الخيل أنه يجوز أن تقول: "أَتيتُكَ اليوم غُدْوةً وبُكْرة" فجعلها مثل ضَحْوة، قال المهدوي: "حكى سيبويه والخليل أنَّ بعضَهم يُنَكِّر فيقول "غُدْوةً" بالتنوين، وبذلك قرأه ابن عامر، كأنه جعله نكرة، فأدخل عليها الألف واللام" وقال أبو علي الفارسي: "وجه دخول الألف واللام عليها أنه يجوز وإن كانت معرفةً أن تُنَكِّر، كما حكى أبو زيد "لقيته فَيْنَةَ" غير مصروفة "والفَيْنَةَ بعد الفينة" أي: الحين بعد الحين، فألحق لام التعريف ما استعمل معرفة، ووجه ذلك أنه يُقَدَّر فيه التنكير والشيوع كما يُقَدَّر فيه ذلك إذا بني".
وقال أبو جعفر النحاس: "قرأ أبو عبد الرحمن ومالك بن دينار وابن عامر: "بالغُدْوة" قال: "وباب غُدْوة أن يكون معرفة إلا أنه يجوز تنكيرها كما تُنَكَّر الأسماءُ الأعلام، فإذا نُكِّرَتْ دَخَلَتْها الألف واللام للتعريف" وقال مكي بن أبي طالب: "إنما دَخَلَت الألف واللام على "غداة" لأنها نكرة، وأكثر العرب يَجْعل "غُدوة" معرفةً فلا ينوِّنها، وكلهم يجعل "غداة" نكرةً فينوِّنها، ومنهم مَنْ يجعل "غُدْوة" نكرة وهم الأقل" فثبت بهذه النقولِ التي ذكرْتُها عن هؤلاء الأئمةِ أن قراءة ابن عامر سالمةٌ من طعن أبي عبيد، وكأنه -رحمه الله - لم يحفظها لغةً.
وأما "العَشِيُّ" فنكرةٌ وكذلك "عَشِيَّة" وهل العَشِيُّ مرادِفٌ لعِشِيَّة؟ أي: إن هذا اللفظَ فيه لغتان: التذكير والتأنيث أو أن عَشِيّاً جمعُ عَشِيَّة في المعنى على حدِّ قمح وقمحة وشعير وشعيرة، فيكون اسم جنس، خلاف مشهور، والظاهر الأول لقوله تعالى:
{ { إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِٱلْعَشِيِّ ٱلصَّافِنَاتُ } [ص: 31]، إذ المرادُ هنا عشيَّة واحدة، واتفقت مصاحف الأمصار على رسم هذه اللفظة "الغدوة" بالواو وقد تقدَّم لك أن قراءة ابن عامر ليست مستندة إلى مجرد الرسم بل إلى النقل، وثَمَّ ألفاظ اتُّفِقَ ايضاً على رسمها بالواو، واتُّفق على قراءتها بالألف وهي: الصلاة والزكاة ومَنَاة ومِشْكاة والربا والنجاة والحياة، وحرفٌ اتٌّفِق على رسمه بالواو واختلف في قراءة بالألف والواو وهو "الغداة". وأصل غداة: غَدَوَة، تحرَّكَت الواو وانفتح ما قبلها فقُلِبَتْ ألفاً. وقرأ ابن أبي عبلة "بالغَدَوات والعَشِيَّات" جمع غداة وعشية، ورُوي عن أبي عبد الرحمن أيضاً "بالغدوِّ" بتشديد الواو من غير هاء.
قوله: { يُرِيدُونَ } هذه الجملةُ في محلِّ نصب على الحال من فاعل "يَدْعون" أو مِنْ مفعلوله، والأول هو الصحيح، وفي الكلام حَذْفٌ أي: يريدون بدعائهم في هذين الوقتين وجهَه.
قوله: { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ } "ما" هذه يجوز أن تكونَ الحجازيةَ الناصبة للخبر فيكون "عليك" في محل النصب على أنه خبرها، عند مَنْ يُجَوِّزُ إعمالَها في الخبر المقدَّم إذا كان ظرفاً أو حرف جر، وأمَّا إذا كانت تميميةً أو متعيَّناً إهمالُه في الخبر المقدم مطلقاً كان "عليك" في محل رفع خبراً مقدماً، والمبتدأ هو "مِنْ شيء" زِيْدت فيه "مِنْ".
وقوله: { مِنْ حِسَابِهِم } قالوا: "مِنْ" بتعيضية وهي في محلِّ نصب على الحال، وصاحبُ الحال هو "مِنْ شيء" لأنها لو تأخرت عنه لكانت صفةً له، وصفةُ النكرة متى قُدِّمَتْ انتصبت على الحال، فعلى هذا تتعلَّق بمحذوفٍ، والعامل في الحال الاستقرار في "عليك"، ويجوز أن يكون "من شيء" في محلِّ رفعٍ بالفاعلية ورافعُه "عليك" لاعتماده على النفي، و"مِنْ حسابهم" حالٌ أيضاً من "شيء" العمل فيها الاستقرار، والتقدير: ما استقرَّ عليك شيء من حسابهم. وأُجيز أن يكون "من حسابهم" هو الخبر: إمَّا لـ "ما" وإمَّا للمبتدأ، "وعليك" حال من "شيء"، والعامل فيها الاستقرار، وعلى هذا فيجوز أن يكون "من حسابهم" هو الرافع للفاعل على ذاك الوجه، و"عليك" حال أيضاً كما تقدم تقريره، وكون "من حسابهم" هو الخبر، و"عليك" هو الحال غيرُ واضح لأنَّ مَحَطَّ الفائدة إنما هو "عليك".
وقوله: { وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ } كالذي قبله، إلا أنَّ هنا يمتنع بعض ما كان جائزاً هناك، وذلك أن قوله "من حسابك" لا يجوز أن يُنْصَبَ على الحال لأنه يلزمُ تقدُّمه على عامله المعنوي، وهو ضعيفٌ أو ممتنع، لا سيما وقد تقدَّمَتْ هنا على العامل فيها وعلى صاحبها، وقد تقدَّم لك أن الحال إذا كانت ظرفاً أو حرفَ جر كان تقديمُها على العامل المعنويِّ أحسنَ منه إذا لم يكن كذلك، فحينئذ لك أن تجعل قوله "مِنْ حسابك" بياناً لا حالاً ولا خبراً حتى تخرجَ من هذا المحذورِ، وكَوْنُ "مِنْ" هذه تبعيضيةً غيرُ ظاهر، وقدَّم خطابَه عليه السلام في الجملتين تشريفاً له، ولو جاءت الجملة الثانية على نَمَط الأولى لكان التركيب: "وما عليهم مِنْ حسابك من شيء" فتقدَّم المجرور بـ "على" كما قَدَّمه في الأولى، لكنه عَدَل عن ذلك لما تقدم.
وفي هاتين الجملتين ما يُسَمِّيه أهل البديع: ردَّ الأعجاز على الصدور، كقولهم: "عادات السادات سادات العادات"، ومثله في المعنى قول الشاعر:

1931- وليس الذي حَلَّلْتَه بمُحَلَّلٍ وليس الذي حَرَّمْتَه بمُحَرَّم

وقال الزمخشري: - بعد كلامٍ قَدَّمَه في معنى التفسير - "فإن قلت أما كفى قولُه: { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ } حتى ضمَّ إليه { وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيءٍ } قلت: قد جُعِلَتِ الجملتان بمنزلة جملة واحدة وقُصِد بهما مُؤدَّىً واحدٌ وهو المَعْنِيُّ بقوله: { { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } [الأنعام: 164]، ولا يَسْتَقِلُّ بهذا المعنى إلا الجملتان جميعاً كأنه قيل: لا تُؤاخَدُ أنت ولا هم بحسابِ صاحبه". قال الشيخ: "قوله: لا تُؤاخَذُ أنت إلى آخره" تركيبٌ غير عربي، لا يجوزُ عَوْدُ الضمير هنا غائباً ولا مخاطباً، لأنه إنْ عاد غائباً فلم يتقدَّمْ له اسمٌ مفرد غائب يعود عليه، إنما تقدَّم قوله "هم" ولا يمكن العَوْدُ عليه على اعتقادِ الاستغناء بالمفرد عن الجمع، لأنه يصير التركيب بحساب صاحبهم، وإنْ أُعيد مخاطباً فلم يتقدم مخاطب يعود عليه، إنما تقدَّم قولُه "لا تُؤاخذ أنت" ولا يمكن العَوْدُ إليه، فإنه ضميرٌ مخاطب فلا يعودُ عليه غائباً، ولو أَبْرَزْته مخاطباً لم يَصِحَّ التركيب ايضاً، فإصلاحُ التركيبِ أن يقال: "لا يُؤاخذُ كلُّ واحدٍ منك ولا منهم بحسابِ صاحبه، أو لا تؤاخذ أنت بحسابهم ولا هم بحسابك، أو لا تؤاخذ أنت ولا هم بحسابكم" فتُغَلِّب الخطابَ على الغيبة كما تقول: "أنت وزيد تضربان" والذي يظهر أن كلامَ الزمخشري صحيحٌ، ولكنْ فيه حذفٌ وتقديره: لا يؤاخذ كل واحد: أنت ولا هم بحساب صاحبه، وتكون "انت ولا هم" بدلاً من كل واحد، والضمير، في "صاحبه" عائد على قوله "كل واحد"، ثم إنه وقع في محذور آخر مما أَصْلَحَ به كلام أبي القاسم، وذلك أنه قال: "أولا تؤاخذ أنت ولا هم بحسابكم" وهذا التركيبُ يُحتمل أن يكونَ المرادُ - بل هو الظاهر - نفيَ المؤاخذة بحساب كل واحد بالنسبة إلى نفسه هو، لا أن كلَّ واحد غير مؤاخذ بحساب غيره، والمعنى الثاني هو المقصود.
والضمائر الثلاثة، أعني التي في قوله: { مِنْ حِسَابِهِم } و"عليهم" و"فتطردهم" الظاهر عَوْدُها على نوعٍ واحد وهم الذين يَدْعُون ربهم، وبه قال الطبري، إلا أنه فسَّر الحساب بالرزقِ الدنيويِّ. وقال الزمخشريّ وبان عطية: "إن الضميرَيْن الأوَّلَيْن يعودان على المشركين، والثالث يعود على الداعين". قال الشيخ: "وقيل: الضميرُ في "حسابهم" و"عليهم" عائد على المشركين وتكون الجملتان اعتراضاً بين النهي وجوابه"، وظاهر عبارته أن الجملتين لا تكونان اعتراضاً إلا على اعتقاد كون الضميرين "في حسابهم" و"عليهم" عائدَيْن على المشركين، وليس الأمرُ كذلك، بل هما اعتراضٌ بين النهي وهو "لا تَطْرُدِ" وبين جوابِه وهو فتكونَ" وإن كانت الضمائر كلها للمؤمنين، ويدل على ذلك أنه قال بعد ذلك في "فتكون": "وجوَّزوا أن يكون جواباً للنهي في قوله { وَلاَ تَطْرُدِ } وتكون الجملتان وجوابُ الأول اعتراضاً بين النهي وجوابه" فجعلهما اعتراضاً مطلقاً من غير نظر إلى الضميرين. ويعني بالجملتين "وما عليك من حسابهم مِنْ شيء" و"ما من حسابك عليهم من شيء" وبجواب الأول قوله { فَتَطْرُدَهُمْ }.
قوله تعالى: { فَتَطْرُدَهُمْ } فيه وجهان، أحدهما: منصوب على جواب النهي بأحد معنيين فقط، وهو انتفاءُ الطَّرْدِ لانتفاء كون حسابهم عليه وحسابه عليهم، لأنه ينتفي المُسَبِّب بانتفاء سببه، ويتوضَّح ذلك في مثال وهو "ما تأتينا فتحدِّثنا" بنصب "فتحدِّثَنا" وهو يحتمل معنيين، أحدُهما: انتفاءُ الإِتيان وانتفاء الحديث، كأنه قيل: ما يكون منك إتيانٌ فكيف يقع منك حديث؟ وهذا المعنى هو مقصود الآية الكريمة أي: ما يكون مؤاخذةٌ كلِ واحدٍ بحساب صاحبه فيكف يقع طرد؟ والمعنى الثاني: انتفاء الحديث وثبوت الإِتيان كأنه قيل: ما تأتينا مُحَدِّثاً بل تأتينا غيرَ محدِّث. وهذا المعنى لا يليق بالآية الكريمة، والعلماء - رحمهم الله - وإن أطلقوا قولهم إنه منصوبٌ على جواب النفي، فإنما يريدون المعنى الأول دون الثاني: والثاني: أن يكون منصوباً على جواب النهي.
وأما قوله "فتكونَ" ففي نصبه وجهان، أظهرهما: أنه منصوب عطفاً على "فتطردَهم" والمعنى: الإِخبار بانتفاء حسابهم، والطرد والظلم المسبب عن الطرد. قال الزمخشري: "ويجوز أن تكون عطفاً على "فتطردَهم" على وجه السبب، لأنَّ كونَه ظالماً مُسَبِّبٌ عن طردهم".
والثاني من وجهي النصب: أنه منصوب على جواب النهي في قوله: "ولا تَطْرد" ولم يذكر مكي ولا الواحدي ولا أبو البقاء غيره. قال الشيخ: "وجوَّزوا أن يكون "فتكونَ" جواباً للنهي في قوله "لا تَطْرِدِ" كقوله:
{ { لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ } [طه: 61]، وتكون الجملتان وجوابُ الأول اعتراضاً بين النهي وجوابه" قلت: قد تقدَّم أن كونَهما اعتراضاً لا يتوقف على عَوْد الضميرين في قوله "مِنْ حسابهم" و"عليهم" على المشركين كما هو المفهوم من قوله ههنا، وإن كان كلامه قبل ذلك كما حَكَيْتُه عنه يُشْعر بذلك.