التفاسير

< >
عرض

قُلْ إِنِّي عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ يَقُصُّ ٱلْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ ٱلْفَٰصِلِينَ
٥٧
-الأنعام

الدر المصون

قوله تعالى: { وَكَذَّبْتُم بِهِ }: في هذه الجملة وجهان، أحدهما: أنها مستأنفةٌ سيقت للإِخبار بذلك. والثاني: أنها في محصل نصب على الحال، وحينئذ هل يُحتاج إلى إضمار "قد" أم لا؟ والهاء في "به" يجوز أن تعود على "ربي" وهو الظاهر. وقيل: على القرآن لأنه كالمذكور. وقيل على "بَيِّنَة" لأنها في معنى البيان. وقيل: لأن التاء فيها للمبالغة، والمعنى: على أمرٍ بَيِّنٍ من ربي، و"من ربي" في محل جر صفة لـ "بينة"
قوله: { يَقُصُّ ٱلْحَقَّ } قرأ نافع وابن كثير وعاصم: "يقص" بصاد مهملة مشددة مرفوعة، وهي قراءة ابن عباس، والباقون بضاد معجمة مخففة مكسورة، وهاتان في المتواتر. وقرأ عبد الله وأُبَيّ ويحيى بن وثاب والنخعي والأعمش وطلحة: "يقضي بالحق" من القضاء. وقرأ سعيد بن جبير ومجاهد: "يقضي بالحق وهو خير القاضين" فأمَّا قراءة "يقضي" فمِن القضاء. ويؤيده قوله: "وهو خير الفاصلين" فإنَّ الفصل يناسب القضاء، ولم يُرْسَم إلا بضاد، كأن الباء حُذِفَتْ خَطَّاً كما حذفت لفظاً لالتقاء الساكنين، كما حذفت من نحو:
{ { فَمَا تُغْنِ ٱلنُّذُرُ } [القمر: 5]، وكما حُذِفَتْ الواو في { { سَنَدْعُ ٱلزَّبَانِيَةَ } [العلق: 18] { { وَيَمْحُ ٱللَّهُ ٱلْبَاطِلَ } [الشورى: 24] لما تقدم.
وأمَّا نصب "الحق" بعده ففيه أربعة أوجه، أحدها: أنه منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف أي: يقضي القضاء الحق. والثاني: أنه ضمَّن "يقضي" معنى يُنْفِذ، فلذلك عدَّاه إلى المفعول به، الثالث: أن "قضى" بمعنى صنع فيتعدَّى بنفسه من غير تضمين، ويدل على ذلك قوله:

1936- وعليهما مَسْرُودتان قضاهُما داودُ ....................

أي: صَنَعَهما. الرابع: أنه على إسقاط حرف الجر أي: يقضي بالحق، فلما حذف انتصب مجروره على حَدِّ قوله:

1937- تمرُّون الدِّيار فلم تَعْوجوا .................

ويؤيد ذلك: القراءةُ بهذا الأصل.
وأما قراءة "يَقُصُّ" فمِنْ "قَصَّ الحديث" أو مِنْ "قصَّ الأثر" أي: تَتَبَّعه. وقال تعالى:
{ { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ } [يوسف: 3]. ورجحَّ أبو عمرو بن العلاء القراءة الأولى بقوله: "الفاصلين"، وحُكي عنه أنَّه قال: "أهو يَقُصُّ الحقَّ أو يقضي الحقَّ أو يقضي الحق" فقالوا: "يقصُّ" فقال: "لو كان "يقص" لقال: "وهو خير القاصِّين" اقرأ أحدٌ بهذا؟ وحيث قال: { وَهُوَ خَيْرُ ٱلْفَاصِلِينَ } فالفصل إنما يكون في القضاء" وكأن أبا عمرو لم يَبْلُغْه "وهو خير القاصِّين" قراءةً. وقد أجاب أبو علي الفارسي عما ذكره ابن العلاء فقال: "القصصُ هنا بمعنى القول، وقد جاء الفصل في القول أيضاً قال تعالى: { { إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ } [طارق: 13] وقال تعالى: { { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ } [هود: 1]. وقال تعالى: { { وَنُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ } [التوبة: 11] فقد حمل الفَصْل على القول، واستُعمل معه كما جاء مع القضاء فلا يلزم "من الفاصلين" أن يكون مُعَيِّناً ليقضي.