التفاسير

< >
عرض

وَقَطَّعْنَاهُمُ ٱثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ إِذِ ٱسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْحَجَرَ فَٱنبَجَسَتْ مِنْهُ ٱثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلْمَنَّ وَٱلسَّلْوَىٰ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
١٦٠
-الأعراف

الدر المصون

قوله تعالى: { وَقَطَّعْنَاهُمُ ٱثْنَتَيْ عَشْرَةَ }: الظاهر أن "قطعناهم" متعدٍّ لواحد لأنه لم يُضَمَّنْ معنى ما يتعدى لاثنين، فعلى هذا يكون "اثنتي" حالاً من مفعول "قطَّعناهم"، أي: فَرَّقْناهم معدودِين بهذا العدد. وجوَّز أبو البقاء أن يكون قَطَّعْنا بمعنى صَيَّرنا وأن "اثنتي" مفعولٌ ثانٍ، وجزم الحوفي بذلك.
وتمييز "اثنتي عشرة" محذوف لفهم المعنى تقديره: اثنتي عشرة فرقة و "أسباطاً" بدل من ذلك التمييز. وإنما قلت إن التمييز محذوف، ولم أجعل "أسباطاً" هو المميِّز لوجهين، أحدهما: أن المعدودَ مذكرٌ لأن أسباطاً جمع سِبْط، فكان يكون التركيبُ اثني عشر. والثاني: أن تمييز العدد المركب وهو من أحد عشر إلى تسعة عشر مفرد منصوب، وهذا ـ كما رأيت ـ جمعٌ. وقد جعله الزمخشري تمييزاً له معتذراً عنه فقال: "فإن قلتَ: مميِّز ما عدا العشرةَ مفردٌ فما وجهُ مجيئه جمعاً؟ وهلا قيل: اثني عشر سِبْطاً. قلت: لو قيل ذلك لم يكن تحقيقاً لأن المرادَ: وقطَّعْناهم اثنتي عشرة قبيلة، وكلُّ قبيلة أَسْباط لا سِبْط، فوضع أسباطاً موضع قبيلة. ونظيرُه:

2315ـ بين رماحَيْ مالكٍ ونَهْشَلِ

قال الشيخ: "وما ذهب إليه من أن كل/ قبيلة أسباط خلافُ ما ذكره الناس: ذكروا أن الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب، وقالوا: الأسباط جمع [سبط]، وهم الفرق والأسباط في ولد إسحاق كالقبائل في ولد إسماعيل ويكون على زعمه قولُه تعالى: { وَمَآ أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَٱلأَسْبَاطِ } معناه: والقبيلة. وقوله وهو نظير قوله "بين رماحَيْ مالك ونهشل" ليس بنظيره، لأن هذا من باب تثنية الجمع وهو لا يجوز إلا في ضرورة، وكأنه يشير إلى أنه لو لم يُلْحَظْ في الجمع كونُه أريد به نوعٌ من الرماح لم تَصِحَّ التثنية، كذلك هنا لُحِظ في الأسباط ـ وإن كان جمعاً ـ معنى القبيلة فَمُيِّزَ به كما يُمَيَّزُ بالمفرد".
وقال الحوفي: "يجوز أن يكونَ على الحَذْف، والتقدير: اثنتي عشرة فرقةً أسباطاً، ويكون "أسباطاً" نعتاً لفرقة، ثم حُذف الموصوفُ وأقيمت الصفة مُقامه. وأمم نعتٌ لأسباط، وأنَّث العددَ وهو واقعٌ على الأسباط وهو مذكر وهو بمعنى فرقة أو أمة كما قال:

2316ـ ثلاثة أنفس ......... ..................

يعني رجلاً. [وقال:]

2317ـ ................ عشرُ أَبْطُنْ ................

بالنظر إلى القبيلة. ونظيرُ وصفِ التمييز المفرد بالجمع مراعاةً للمعنى قول الشاعر:

2318ـ فيها اثنتان وأربعون حَلوبةً سُوداً كخافيةِ الغراب الأَسْحَمِ

فوصف "حلوبة" وهي مفردةٌ لفظاً بـ "سُوْداً" وهو جمع مراعاةً لمعناها، إذ المرادُ الجمع".
وقال الفراء: "إنما قال "اثنتي عشرة" والسِّبط مذكر لأنَّ ما بعده أممٌ فذهب التأنيث إلى الأمم، ولو كان اثني عشر لتذكير السبط لكان جائزاً" واحتجَّ النحويون على هذا بقول الشاعر:

2319ـ وإنَّ قريشاً هذه عشرُ أبطنٍ وأنت بريءٌ من قبائلها العشرِ

ذهب بالبطن إلى القبيلة والفصيلة، لذلك أنَّث والبطن ذَكَر.
وقال الزجاج: "المعنى: "وقَطَّعناهم اثنتي عشرة فرقةً أسباطاً، من نعتِ فرقة كأنه قال: جَعَلناهم أسباطاً وفَرَّقْناهم أسباطاً"، وجوَّز أيضاً أن يكون "أسباطاً" بدلاً من "اثنتي عشرة" وتبعه الفارسيُّ في ذلك.
وقال بعضهم: "تقدير الكلام: وقطعناهم فرقاً اثنتي عشرة، فلا يُحتاج حينئذٍ إلى غيره. وقال آخرون: جَعَل كلَّ واحد من الاثنتي عشرة أسباطاً، كما تقول: لزيد دراهم ولفلان دراهم ولفلان دراهم، فهذه عشرون دراهم، يعني أن المعنى على عشرينات من الدراهم. ولو قلت: لفلان ولفلان ولفلان عشرون درهماً بإفراد "درهم" لأدَّى إلى اشتراك الكل في عشرين واحدة والمعنى على خلافه. وقال جماعة منهم البغوي: "وفي الكلام تقديمٌ وتأخير تقديرُه: وقطعناهم أسباطاً أمماً اثنتي عشرة".
وقوله { أُمَماً }: إمَّا نعتٌ لأسباطاً، وإمَّا بدل منها بعد بدل على قولنا: إن أسباطاً بدلٌ من ذلك التمييزِ المقدر. وجَعَلَه الزمخشري أنه بدل من اثنتي عشرة قال: "بمعنى: وقَطَّعناهم أمماً لأن كل أسباط كانَتْ أمةً عظيمة وجماعة كثيفة العدد" وكلُّ واحدة تَؤُمُّ خلافَ ما تَؤُمُّه الأخرى لا تكاد تأتلف" انتهى. وقد تقدَّم القول في الأسباط.
وقرأ أبان بن تغلب "وَقَطَعْناهم" بتخفيف العين، والشهيرةُ أحسنُ لأنَّ المقامَ للتكثير، وهذه تحتمله أيضاً. وقرأ الأعمش وابن وثاب وطلحة ابن سليمان "عَشِرة" بكسر الشين، وقد رُوي عنهم فتحُها أيضاً، ووافقهم على الكسر فقط أبو حيوة وطلحة بن مصرف. وقد تقدَّم تحقيق ذلك في البقرة، وأن الكسرَ لغةُ تميم والسكونَ لغةُ الحجاز.
قوله: { أَنِ ٱضْرِب } يجوز في "أَنْ" أن تكون المفسِّرة للإِيحاء، وأن تكونَ المصدرية. وقوله: "فانبجسَتْ" كقوله:
{ { فَٱنفَجَرَتْ } [البقرة: 80] إعراباً وتقديراً ومعنىً، وقد تقدم جميعُ ذلك في البقرة. وقيل: الانبِجاسُ: العَرَق. قال أبو عمرو بن العلاء:/ "انبجست: عَرِقَتْ، وانفجرت: سالَتْ" ففرَّق بينهما بما ذُكر، وفي التفسير أن موسى عليه الصلاة والسلام كان إذا ضَرَبَ الحجر ظهر عليه مثلُ ثَدْي المرأة فَيَعْرَقُ ثم يَسيل، وهما قريبان من الفَرْق المذكور في النضخ والنضح. وقال الراغب: "يقال: بَجَس الماءُ وانبجَسَ انفجر، لكن الانبجاسَ أكثرُ ما يُقال فيما يَخْرج من شيءٍ ضيق، والانفجار يُستعمل فيه وفيما يخرج من شيء واسع، ولذلك قال تعالى: { فَٱنبَجَسَتْ مِنْهُ ٱثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً }، وفي موضعٍ آخرَ { فَٱنفَجَرَتْ } [البقرة: 60]، فاستُعْمل حيث ضاق المخرج اللفظتان" يعني ففرَّق بينهما بالعموم والخصوص، فكلُّ انبجاسٍ انفجارٌ من غير عكس. وقال الهروي: "يقال: انبجسَ وتَبَجَّس وتَفَجَّر وتفتَّق بمعنى واحدٍ"، وفي حديث حذيفة: "ما منا إلا رجلٌ له آمَّةٌ يَبْجُسُها الظُّفُر غيرَ رَجُلَيْن" يعني عمر وعلياً رضي الله عنهم. الآمَّة: الشجَّة تبلغ أمَّ الرأس، وهذا مَثَل يعني أن الآمَّة منا قد امتلأت صديداً بحيث إنه يُقْدر على استخراج ما فيها بالظفر من غير احتياج إلى آلة حديد كالمِبْضَع فعبَّر عن زَلَلِ الإِنسان بذلك، وأنه تفاقم إلى أن صار يشبه شَجَّةً هذه صفتها.
قوله: { كُلُّ أُنَاسٍ } قد تقدَّم الوعدُ في البقرة بالكلام على لفظة "أناس" هنا. قال الزمخشري: "الأناس: اسم جمع غير تكسير نحو: رُخال وتُناء وتُؤام وأخواتٍ لها. ويجوز أن يقال: إن الأصل الكسر والتكسير، والضمة بدل من الكسرة كما أُبدلت في نحو سُكارَى وغُيارَى من الفتحة". قال الشيخ: "ولا يجوز ما قال لوجهين، أحدهما: أنه لم يُنْطَقْ بـ "إناس" بكسر الهمزة فيكون جمعَ تكسيرٍ حتى تكونَ الضمةُ بدلاً من الكسرة بخلاف سُكارى وغيارى فإن القياس فيه فَعالى بفتح فاء الكلمة، وهو مسموع فيهما. والثاني: أن سُكارى وغُيارى وعُجالى وما ورد من نحوها ليست الضمةُ فيه بدلاً من الفتحة، بل نَصَّ سيبويه في "كتابه" على أنه جمعُ تكسيرٍ أصلٌ، كما أن فَعالى جمعُ تكسيرٍ أصلٌ، وإن كان لا ينقاس الضمُّ كما ينقاس الفتح.
قال سيبويه في حَدِّ تكسيرِ الصفات: "وقد يُكَسِّرون بعضَ هذا على فُعالى وذلك قول بعضِهم "عُجالى وسُكارى". وقال سيبويه في الأبنية أيضاً: "ويكونُ فُعالى في الاسم نحو: حُبارَى وسُمانى ولُبادى ولا يكون وصفاً إلا أن يُكَسَّر عليه الواحدُ للجمع نحو: سُكارى وعجالى" فهذان نَصَّان من سيبويه على أنه جمعُ تكسير، وإذا كان جمعَ تكسيرٍ أصلاً لم يَسْغُ أن يُدَّعى أن أصلَه فَعالَى وأنه أُبْدلت الحركة فيه. وذهب المبرد إلى أنه اسمُ جمع أعني فُعالى بضم الفاء وليس بجمع تكسير، فالزمخشري لم يذهبْ إلى ما ذهب إليه سيبويه، ولا إلى ما ذهب إليه المبرد، لأنه عند المبرد اسمُ جمعٍ، فالضمة في فائه أصلٌ ليست بدلاً من الفتحة بل أحدث قولاً ثالثاً" انتهى.
قوله: { كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ } قد تقدَّم الكلامُ على هذه الجملةِ وما قبلها، وما بعدها في البقرة، وكأن هذه القصةَ مختصرةٌ مِنْ تِيْكَ، فإن تِيْكَ أشبعُ من هذه. قال الزمخشري: "التقديمُ والتأخيرُ في "وقولوا وادخلوا" سواء قَدَّموا الحِطَّة على دخول الباب أو أخَّروها، فهم جامعونَ في الإِيجادِ بينهما" قال الشيخ: "وقولُه: سواءٌ قَدَّموا أو أخَّروها تركيبٌ غير عربي، وإصلاحهُ: سواء أقدَّموا أم أخَّروا كما قال تعالى:
{ { سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا } [إبراهيم: 21] قلت: يعني كونه أتى لفظُ "سواء" بأو دون أم، ولم يأت بهمزة التسوية بعد سواء، وقد تقدم أن ذلك جائزٌ وإن كان الكثيرُ ما ذكره، وأنه قد قرئ { سواء عليهم أأنذرتهم أو لم تُنْذِرْهم } والردُّ بمثل هذا غيرُ طائلٍ.
وقرأ عيسى الهمذاني "ما رَزَقْتُكم" بالإِفراد، وسيأتي خلافٌ بين السبعة في مثل هذا في سورة طه.
قوله: { نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ } قد تقدَّم الخلاف في "يغفر" وأما "خطاياكم" فقرأها ابنُ عامر "خطيئتكم" بالتوحيد والرفع على ما لم يُسَمَّ فاعلُه، والفرض أنه يقرأ "تُغْفَر" بالتاء من فوق. ونافع قرأ "خطيئاتكم" بجمعِ السَّلامة رفعاً على ما لم يُسَمَّ فاعلُه؛ لأنه يقرأ "تُغْفَر" كقراءةِ ابن عامر، وأبو عمرو قرأ: "خطاياكم" جمعَ تكسير، ويَقرأ "نغفر" بنونِ العظمة، والباقون: نَغْفر كأبي عمرو، "خطيئاتكم" بجمع السَّلامة منصوباً بالكسرة على القاعدة. وفي سورة نوح قرأ أبو عمرو/ "خطاياهم" بالتكسير أيضاً، والباقون بجمع التصحيح. وقرأ ابن هرمز "تُغْفَر" بتاء مضمومة مبنياً للمفعول كنافع، "خطاياكم" كأبي عمرو. وعنه أيضاً: "يَغْفر" بياء الغيبة، وعنه: "تَغْفِر" بفتح التاء من فوق، على معنى أن الحِطَّة سببٌ للغفران فنسب الغفرانَ إليها.