التفاسير

< >
عرض

فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ ٱلْكِتَٰبَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـٰذَا ٱلأَدْنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَٰقُ ٱلْكِتَٰبِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
١٦٩
-الأعراف

الدر المصون

قوله تعالى: { وَرِثُواْ }: في محلِّ رفع نعتاً لـ "خَلْفٌ" و "يأخذون" حال من فاعل "ورثوا". والخَلْف والخَلَف ـ بفتح اللام وإسكانها ـ هل هما بمعنىً واحد، أي: يُطلق كل منهما على القَرْن الذي يَخْلُف غيره صالحاً كان أو طالحاً، أو أن الساكن اللام في الطالح والمفتوحها في الصالح؟ خلافٌ مشهور بين اللغويين. قال الفراء: "يُقال للقَرْن: خَلْف ـ يعني ساكناً ـ ولمن استخلفته: خلَفاً ـ يعني متحرك اللام ـ". وقال الزجاج: يُقال للقَرْن يجيء بعد القرن خَلْف". وقال ثعلب: "الناس كلهم يقولون: "خَلَف صدق" للصالح و "خَلْف سوء" للطالح، وأنشد:

2324ـ ذهب الذين يُعاشُ في أكنافِهم وبَقِيتُ في خَلْف كجِلْدِ الأجرب

وقالوا في المثل: "سكت أَلْفاً ونطق خَلْفاً"، ويُعزى هذا أيضاً إلى الفراء وأنشدوا:

2325ـ خَلَّفْتَ خَلْفاً ولم تَدَعْ خَلفَا ليت بهم كان لا بك التَّلَفَا

وقال بعضهم: "قد يجيء في الرديء خَلَف بالفتح، وفي الجيد خَلْف بالسكون، فمِنْ مجيء الأول قوله:

2326ـ ...................... إلى ذلك الخَلَفِ الأعور

ومِنْ مجيء الثاني قول حسان:

2327ـ لنا القَدَمُ الأُوْلى عليهم وخَلْفُنا لأولِنا في طاعة الله تابعُ

وقد جمع بينهما الشاعر في قوله:

2328ـ إنَّا وَجَدْنا خَلْفَنا بِئْسَ الخَلَفْ عبداً إذا ما ناء بالحِمْل وَقَفْ

فاستعمل الساكنَ والمتحركَ في الرديء، ولهذا قال النضر: "يجوز التحريكُ والسكونُ في الرديء، فأمَّا الجيدُ فبالتحريك فقط"، ووافقه جماعةُ أهل اللغة إلا الفراءَ وأبا عبيد فإنهما أجازا السكون في الخلف المراد به الصالح.
والخَلْف ـ بالسكون - فيه وجهان، أحدهما: أنه مصدر، ولذلك لا يثنَّى ولا يُجْمَعُ ولا يُؤَنَّث وعليه ما تقدَّم من قوله:

إنَّا وَجَدْنا خَلْفَنَا بئس الخَلَفْ

وإمَّا اسم جمع خالِف كرَكْب لراكب وتَجْر لتاجر، قاله ابن الأنباري. وردُّوه عليه بأنه لو كان اسم جمع لم يَجْرِ على المفرد وقد جرى عليه. واشتقاقُه: إمَّا من الخلافة، أي: كلُّ خَلَفٍ يَخْلُفُ مَنْ قبله، وإمَّا مِنْ خَلَفَ النبيذ يخلُف، أي: فسد، يقال: خَلَفَ النبيذُ يَخْلُف خَلْفاً إذا فسد، خَلْفاً وخُلُوفاً، وكذا الفم إذا تغيَّرت رائحتُه. ومن ذلك الحديث: "لَخَلُوف فم الصائم". وقرأ الحسن البصري: "وُرِّثوا" بضم الواو وتشديد الراء مبنياً لِما لم يُسَمَّ فاعلُه. ويجوز أن يكون "يأخذون" مستأنفاً، أخبر عنهم بذلك. وتقدَّم الكلامُ على لفظ "الأدنى" واشتقاقه.
قوله: { وَيَقُولُونَ } نسق على "يأخذون" بوجهيه و "سيُغْفَر" معموله. وفي القائم مَقام فاعلِه وجهان، أحدهما: الجارُّ بعده وهو "لنا". والثاني: أنه ضمير الأخذ المدلول عليه بقوله: "يأخذون"، أي: سيفغر لنا أَخْذُ العَرض الأدنى.
قوله: { وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ } هذه الجملةُ الشرطية فيها وجهان، أحدهما: ـ وهو الظاهر ـ أنها مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإِعراب، والثاني: أن الواوَ للحال، وما بعدها منصوبٌ عليها. قال الزمخشري: "الواو للحال، أي: يرجون المغفرة وهم مُصِرُّون عائدون إلى فعلهم غير تائبين، وغفرانُ الذنوبِ لا يَصِحُّ إلا بالتوبة، والمُصِرُّ لا غفران له" انتهى. وإنما جَعَل الواو للحال لهذا الغرض الذي ذكره من أن الغفران شرطُه التوبة، وهو رأي المعتزلة، وأمَّا أهل السنة فيجوز مع عدم التوبة لأنَّ الفاعلَ مختار.
قوله: { عَرَضَ } العرض ـ بفتح الراء ـ ما لا ثبات له، ومنه استعار المتكلمون العَرَض المقابل للجوهر. وقال أبو عبيدة: "العَرَض ـ بالفتح ـ جميعُ مَتَاع الدنيا غيرَ النَّقْدَيْن". والعَرْض بالسكون هو الدراهم والدنانير التي هي قيم المُتْلَفات ورؤوسُ الأموال. وعلى الأول قيل: الدنيا عرضٌ حاضر يأكل منها البَرُّ والفاجر.
قوله: { أَن لاَّ يِقُولُواْ } فيه [أوجه]/ أحدها: أنَّ محله رفع على البدل من "ميثاق" لأن قول الحق هو ميثاق الكتاب. والثاني: أنه عطفُ بيان له، وهو قريب من الأول. و الثالث: أنه منصوبٌ على المفعول من أجله. قال الزمخشري: "وإن فُسِّر ميثاق الكتاب بما تقدَّم ذكرُه كان "أن لا يقولوا" مفعولاً من أجله، ومعناه: لئلا يقولوا" وكان قد فَسَّر ميثاق الكتاب بقوله في التوراة: مَنْ ارتكب ذنباً عظيماً فإنه لا يُغفر له إلا بالتوبة. و "أنْ" مفسرةٌ لميثاق الكتاب لأنه بمعنى القول. و "لا" ناهية وما بعدها مجزوم بها، وعلى الأقوال [الأُول] "لا" نافية والفعل منصوبٌ بـ "أنْ" المصدرية. و "الحق" يجوز أن يكون مفعولاً به وأن يكونَ مصدراً، وأُضيف الميثاقُ للكتاب لأنه مذكورٌ فيه.
قوله: "دَرَسُواْ" فيه ثلاثة أوجه، أظهرها ما قال الزمخشري وهو كونُه معطوفاً على قوله "ألم يُؤْخَذْ" لأنه تقرير، فكأنه قيل: أُخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا، وهو نظيرُ قوله تعالى
{ { أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ } [الشعراء: 18] معناه: قد ربَّيْناك ولَبِثْتَ. والثاني: أنه معطوف على "وَرِثوا". قال أبو البقاء: "ويكون قولُه "ألم يُؤْخَذْ" معترضاً بينهما، وهذا الوجهُ سبقه إليه الطبري وغيره.
الثالث: أنه على إضمار قد، والتقدير: وقد درسوا. قلت: وهو على هذا منصوب على الحال نسقاً على الجملة الشرطية أي: يقولون: سيُغْفر لنا في هذه الحال، ويجوز أن يكونَ حالاً من فاعل "يأخذوه"، أي: يأخذون العرضَ في حال دَرْسِهم ما في الكتاب المانع من أخذ الرِّشا. وعلى كلا التقديرين فالاستفهامُ اعتراض.
وقرأ الجحدري: "أن لا تقولوا" بتاء الخطاب وهو التفات حسن. وقرأ عليٌّ رضي الله عنه وأبو عبد الرحمن السلمي "وادَّارسوا" بتشديد الدال والأصل: تدارسوا، وتصريفُه كتصريف
{ { فَٱدَّارَأْتُمْ فِيهَا } [البقرة: 72] وقد تقدَّم تحريرُه.
قوله: { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } تقدَّم الكلام على هذه الهمزة والفاء غيرَ مرة. وقرأ ابن عامر ونافع وحفص "تعملون" بالخطاب والباقون بالغيبة، فالخطاب يحتمل وجهين، أحدهما: أنه التفات من الغيبة إلى الخطاب، والمراد بالضمائر حينئذ شيءٌ واحد. والثاني: أن الخطابَ لهذه الأمة، أي: أفلا تعقلون أنتم حال هؤلاء وما هم عليه وتتعجَّبون من حالهم. وأمَّا الغيبةُ فجرى على ما تقدَّم من الضمائر. ونقل الشيخ أن قراءة الغيبة لأبي عمرو وأهلِ مكة، وقراءةَ الخطاب للباقين.