التفاسير

< >
عرض

فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَٱحْصُرُوهُمْ وَٱقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَٰوةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٥
-التوبة

الدر المصون

قوله تعالى: { ٱلأَشْهُرُ }: يجوز أن تكون الألف واللام للعهد، والمرادُ بهذه الأشهرِ الأشهرُ المتقدمة في قوله: { فَسِيحُواْ فِي ٱلأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ }، والعربُ إذا ذكرت نكرةً، ثم أرادت ذِكْرها ثانياً، أتت بمضمرِه أو بلفظه معرَّفاً بأل، ولا يجوز أن نَصِفَه حينئذٍ بصفةٍ تُشْعر بالمغايرة، فلو قيل: "رأيت رجلاً فأكرَمْتُ الرجلَ الطويل" لم تُرِد بالثاني الأولَ، وإن وَصَفْتَه بما لا يقتضي المغايرة جاز كقولك: "فأكرمت الرجل المذكور"، ومنه هذه الآيةُ فإن الأشهر قد وُصِفَتْ بالحُرُم، وهي صفةٌ مفهومة من فحوى الكلام فلم تقتض المغايرة. ويجوز أن يُرادَ بها غيرُ الأشهرِ المتقدمة فلا تكون أل للعهد، والوجهان مقولان في التفسير.
والانسلاخُ هنا من أحسنِ الاستعارات، وقد بَيَّن ذلك أبو الهيثم فقال: "يُقال: "أَهْلَلْنا شهرَ كذا" أي: دَخَلَْنا فيه، فنحن نزداد كلَّ ليلةٍ منه إلى مضيِّ نصفِه لباساً، ثم نَسْلَخُه عن أنفسنا جزءاً فجزءاً إلى أن ينقضي وينسلخ، وأنشد:

2448 ـ إذا ما سَلَخْتُ الشهرَ أَهْلَلْتُ مثلَه كفىٰ قاتِلاً سَلْخي الشهورَ وإهلالي

قوله: { كُلَّ مَرْصَدٍ } في انتصابه وجهان أحدهما: أنه منصوبٌ على الظرفِ المكاني. قال الزجاج: "نحو: ذهبت مذهباً". وقد ردَّ الفارسيُّ عليه هذا القولَ من حيث إنه ظرف مكان مختص، والمكانُ المختصُّ لا يَصِلُ إليه الفعلُ بنفسه بل بواسطة "في"، نحو: صَلَّيْتُ في الطريق، وفي البيت، ولا يَصِلُ بنفسه إلا في ألفاظٍ محصورةٍ بعضُها ينقاسُ وبعضها يُسمع، وجعل هذا نظير ما فَعَلَ سيبويه في بيت ساعِدة:

2449 ـ لَدْنٌ بهَزِّ الكفِّ يَعْسِلُ مَتْنُهُ فيه كما عَسَل الطريقَ الثعلبُ

وهو أنه جعله مما حُذِف فيه الحرفُ اتِّساعاً لا على الظرف؛ لأنه ظرف مكان مختص.
قال الشيخ: "إنه ينتصبُ على الظرف؛ لأنَّ معنى "واقعدوا" لا يُراد به حقيقةُ القعود، وإنما يُراد: ارصُدوهم، وإذا كان كذلك فقد اتفق العاملُ والظرف في المادة، ومتى اتفقا في المادة لفظاً أو معنىً وصل إليه بنفسه تقول: جلست مجلسَ القاضي، وقعدت مجلسَ القاضي، والآيةُ من هذا القبيل".
والثاني: أنه منصوبٌ على إسقاطِ حرف الجر وهو "على" أي: على كلِّ مَرْصَد، وهذا قول الأخفش، وجعله مِثْلَ قولِ الآخر:

2450 ـ تَحِنُّ فَتُبْدِي ما بها مِنْ صَبابةٍ وأُخْفي الذي لولا الأسى لقَضَاني

وهذا لا ينقاسُ بل يُقتصر فيه على السَّماع كقوله تعالى: { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ } أي: على صراطك، اتفق الكل على أنه على تقدير "على". وقال بعضُهم: هو على تقدير الباء أي بكل مرصد، نقله أبو البقاء: وحينئذٍ تكون الباء بمعنى "في" فينبغي أن تُقَدَّرَ "في" لأن المعنى عليها، وجعله نظيرَ قولِ الشاعر:

2451 ـ نُغالي اللحمَ للأضيافِ نَيْئاً ونَرْخُصُهُ إذا نَضِجَ القدورُ

والمَرْصَدُ مَفْعَل مِنْ رصده يَرْصُدُه أي: رَقَبه يَرْقُبُه وهو يَصْلُح للزمان والمكان والمصدر، قال عامر بن الطفيل:

2452 ـ ولقد عَلِمْتَ وما إِخالك ناسِيا أنَّ المنيَّةَ للفتى بالمَرْصَدِ

والمِرْصاد: المكانُ المختص بالترصُّد، والمَرْصَدُ يقع على الراصد سواءً كان مفرداً أم مثنى أم مجموعاً، وكذلك يقع على المرصود، وقولُه تعالى: { فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً } [الجن: 27] يَحْتمل كلَّ ذلك، وكأنه في الأصل مصدرٌ، فلذلك التُزِم فيه الإِفرادُ والتذكير.