التفاسير

< >
عرض

وَٱلْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا
٢
وَٱلنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا
٣
-الشمس

الدر المصون

قوله: { جَلاَّهَا }: الفاعلُ ضميرُ النهارِ، وقيل: عائدٌ على الله تعالىٰ. والضميرُ المنصوبُ: إمَّا للشمسِ، وإمَّا للظُّلمةِ، وإمَّا للدنيا، وإمَّا للأرضِ.
قوله: { إِذَا تَلاَهَا } وما بعدَه فيه إشكالٌ؛ لأنه إنْ جُعِل شرطاً اقتضىٰ جواباً، ولا جوابَ لفظاً، وتقديرُه غيرُ صالحٍ، وإنْ جُعِلَ ظرفاً مَحْضاً استدعىٰ عاملاً، وليس هنا عاملٌ إلاَّ فعلُ القسم، وإعمالُه مُشْكِلٌ؛ لأنَّ فعلَ القسمِ حالٌ لأنه إنشاءٌ، و"إذا" ظرفٌ مستقبلٌ، والحال لا يعملُ في المستقبلِ. وسيأتي جوابُ هذا وتحقيقُه عند ذِكْري سَبْرَه وتقسيمَه قريباً إن شاء الله تعالىٰ.
ويَخُصُّ "إذا" الثانيةَ وما بعدها إشكالٌ آخرُ ذكره الزمخشري فيه غموضٌ فتنبَّهْ له قال: "فإن قلتَ: الأمرُ في نصبِ "إذا" مُعْضِلٌ؛ لأنك لا تخلو: إمَّا أَنْ تجعلَ الواواتِ عاطفةً فتنصِبَ بها وتَجُرَّ فتقعَ في العطفِ على عاملَيْن، وفي نحو قولك: "مررتُ أمسِ بزيدٍ واليومَ عمروٍ" وإمَّا أَنْ تجعلَهُنَّ للقسم فتقعَ فيما اتَّفق الخليلُ وسيبويه على استكراهِه. قلت: الجوابُ فيه أن واوَ القسم مُطَّرَحٌ معها إبرازُ الفعلِ أطِّراحاً كلياً، فكان لها شأنٌ خلافَ شأنِ الباء حيث أُبْرِزَ معَها الفعلُ وأُضْمِرَ، فكانت الواوُ قائمةً مَقامَ الفعلِ، والباءُ سادَّةٌ مَسَدَّهما معاً، والواواتُ العواطفُ نوائبُ عن هذه الواوِ فحققن أَنْ يَكُنَّ عواملَ عملَ الفعلِ والجارِّ جميعاً كما تقول: "ضربَ زيدٌ عمراً وبكرٌ خالداً" فترفعُ بالواوِ وتنصِبُ، لقيامِها مَقامَ "ضرب" الذي هو عامِلُهما" انتهى.
قال الشيخ: "إمَّا قولُه: "في واوات العطف: فَتَنْصِبَ بها وتجرَّ" فليس هذا بالمختار، أعني أَنْ يكونَ حرفُ العطفِ عاملاً لقيامِه مَقامَ العاملِ، بل المختارُ أنَّ العملَ إنما هو للعاملِ في المعطوفِ عليه، ثم إنا لا نُشاحُّه في ذلك. وقوله: "فتقع / في العطفِ على عاملَيْن" ليس ما في الآيةِ من العطفِ على عاملَيْن، وإنما هو مِنْ بابِ عطفِ اسمَيْن: مجرورٍ ومنصوبٍ على اسمَيْن: مجرورٍ ومنصوبٍ، فحرفُ العطفِ لم يَنُبْ مَنابَ عامِلَيْنِ، وذلك نحوُ قولِك: "امرُرْ بزيدٍ قائماً وعمروٍ جالساً" وأنشدَ سيبويهِ في كتابه:

4578ـ وليس بمعروفٍ لنا أَنْ نَرُدَّها صِحاحاً ولا مُسْتَنْكرٍ أن تُعَقَّرا

فهذا مِنْ عَطْفِ مجرورٍ ومرفوعٍ، على مجرورٍ ومرفوعٍ، والعطفُ على عاملَيْن فيه أربعةُ مذاهبَ، ونُسِب الجوازُ إلى سيبويهِ. وقوله: وفي قولِك: "مررْتُ أمسِ بزيدٍ واليومَ عمروٍ" هذا المثالُ مُخالِفٌ لما في الآيةِ، بل وِزانُ ما في الآية: "مررْتُ بزيدٍ أمسٍ وعمروٍ اليومَ" ونحن نُجيز هذا وأمَّا قولُه "على استكراه" فليس كما ذَكَر، بل كلامُ الخليلِ يَدُلُّ على المَنْعِ قال الخليلُ في قولِه عزَّو جلّ: { { وَٱلْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ وَٱلنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ وَمَا خَلَقَ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ } [الليل: 1ـ3]. الواوان الأخيرتان ليستا بمنزلةِ الأولى، ولكنهما الواوانِ اللتان تَضُمَّان الأسماءَ إلى الأسماء في قولِك: "مررتُ بزيدٍ وعمرو" والأُولىٰ بمنزلةِ التاء والباء. وأمَّا قولُه: إنَّ واوَ القسم مُطَّرَحٌ معها إبرازُ الفعلِ اطِّراحاً كلياً" فليس هذا الحكمُ مُجْمَعاً عليه؛ بل أجازَ ابنُ كَيْسانَ التصريحَ بفعلِ القسمِ مع الواوِ، فتقول: أُقْسِم - أو أَحْلِفُ - واللَّهِ لَزيدٌ قائمٌ، وأمَّا قَولُه: "والواوات العواطفُ نوائبُ عن هذه" إلى أخره فمبنيُّ على أَنْ حرفَ العطفِ عاملٌ لنيابتِهِ منابَ العاملِ وليس هذا بالمختار" قال: "والذي نقوله: إنَّ المُعْضِلَ هو تقديرُ العاملِ في "إذا" بعد الأقسام، كقوله: { { وَٱلنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ } [النجم: 1] { { وَٱللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ } [المدثر: 33] { { وَٱلصُّبْحِ إِذَآ أَسْفَرَ } } [المدثر: 34] { وَٱلْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا } { { وَٱلْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ } [الليل: 1] وما أَشْبهها، فإذا ظرفٌ مستقبلٌ، لا جائزٌ أَنْ يكونَ العاملُ فيه فعلَ القسمِ المحذوفِ لأنه فعل إنشائيُّ فهو في الحال ينافي أَنْ يَعْمَلَ في المستقبلِ لاختلافِ زمانِ العاملِ وزمانِ المعمولِ. ولا جائز أَنْ يكونَ ثمَّ مضافٌ محذوفٌ، أُقيم المُقْسَمُ به مُقامه، أي: وطلوعِ النجمِ ومجيءِ الليلِ، لأنه معمولٌ لذلك الفعلِ، فالطلوعُ حالٌ ولا يعملُ في المستقبل ضرورةَ أنَّ زمان العاملِ زمانُ المعمول. ولا جائزٌ أَنْ يعملَ فيه نفسُ المُقْسَمِ به؛ لأَنه ليس من قبيلِ ما يَعْمل، لا سيما إنْ كان جُرْماً. ولا جائزٌ أنْ يُقدَّرَ محذوفٌ قبل الظرفِ فيكونُ قد عملَ فيه، ويكون ذلك العاملُ في موضعِ الحال وتقديرُه: والنجمِ كائناً إذا هوى، والليلِ كائناً إذا يَغْشى؛ لأنه يَلْزَمُ "كائناً" أنْ لا يكونَ منصوباً بعاملٍ، ولا يَصِحُّ أَنْ يكونَ معمولاً لشيء مِمَّا فَرَضْناه أن يكونَ عاملاً. وأيضاً فقد يكونُ المُقْسَمُ به جثةً وظروفُ الزمانِ لا تكون أحوالاً عن الجثثِ، كما لا تكونُ أخباراً" انتهى ما رَدَّ به الشيخُ وما استشكلَه مِنْ أمرِ العاملِ في "إذا" وأنا بحمدِ اللَّهِ أتتبَّعُ قولَه وأبيِّنُ ما فيه.
فقوله: "إن المختارَ أن حرفَ العطفِ لا يعملُ لقيامِه مَقامَ العاملِ فلا يَلْزَمُ أبا القاسم، لأنه يختارُ القولَ الآخَرَ. وقوله: "ليس ما في هذه الآية مِنْ العطفِ على عاملَيْن" ممنوعٌ بل فيه العطفُ على عاملَيْن ولكنْ فيه غموضٌ، وبيانُ أنه مِنْ العطفِ على عاملَيْن: أنَّ قولَه: { وَٱلنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا } هنا معمولان أحدُهما مجرورٌ وهو "النهار" والآخرُ منصوبٌ وهو الظرفُ، عطفاً على معمولَيْ عاملَيْن، والعاملان هما: فعلُ القسمِ الناصبُ لـ"إذا" الأولى، وواوُ القسمِ الجارَّةُ، فقد تحقَّق معك عاملانِ لهما معمولان، فإذا عَطَفْتَ مجروراً على مجرور، وظرفاً على ظرف، معمولَيْن لعاملَين لَزم ما قاله أبو القاسم. وكيف يُجْهَلُ هذا ما التأمَّلِ والتحقيق؟
وأمَّا قولُه: "وأنشد سيبويهِ إلى آخره" فهو اعترافٌ منه بأنَّه من العطفِ على عاملَيْن، غايةُ ما في الباب أنه استندَ إلى جاهِ سيبويهِ. وأمَّا قولُه "أجازَ ابنُ كَيْسان / فلا يَلْزَمُه مذهبُه. وأمَّا قولُه: "فالمثالُ كالآيةِ، بل وزانها إلى آخره" فصحيحٌ لما فيه مِنْ تقديمِ الظرفِ الثاني على المجرورِ المعطوفِ، والآيةُ الظرفُ فيها متأخرٌ، وإنما مرادُ الزمخشريِّ وجودُ معمولَيْ عاملَيْنِ، وهو موجودٌ في المثالِ المذكورِ، إلاَّ أنَّ فيه إشكالاً آخر: وهو أنَّه كالتكريرِ للمسألةِ.
وأمَّا قولُه "بل كلامُ الخليلِ يَدُلُّ على المنعِ إلى آخره" فليس فيه رَدٌّ عليه بالنسبةِ إلى ما قصدَه، بل فيه تقويةٌ لِما قالَه. غايةُ ما في البابِ أنه عَبَّر بالاستكراهِ عن المنعِ، أو لم يَفْهَمِ المَنْعَ. وقوله: "ولا جائزٌ أَنْ يكونَ ثَمَّ مضافٌ محذوفٌ" إلى آخره، فأقول: بل يجوزُ تقديرُه: وهو العاملُ، ولا يَلْزَمُ ما قال مِنْ اختلاف الزمانَيْن؛ لأنه يجوزُ أَنْ يُقْسِمَ الآن بطلوع النجمِ في المستقبل، فالقَسَمُ في الحالِ والطُّلوعُ في المستقبلِ، ويجوزُ أَنْ يُقْسِمَ بالشيء الذي سيوجَدُ. وقوله: "ولا جائزٌ أَنْ يُقدَّرَ محذوفٌ قبل الظرفِ،فيكون قد عَمِل فيه" إلى آخره ليس بممنوع بل يجوزُ ذلك، وتكون حالاً مقدرةً. قوله: "يَلْزَم أَنْ لا يكونَ له عاملٌ" ليس كذلك بل له عاملٌ وهو فعلُ القسم، ولا يَضُرُّ كونُه إنشائياً؛ لأنَّ الحالَ مقدرةٌ كما تقدَّم. قوله :"وقد يكونُ المُقْسَمُ به جثةً" جوابُه: يُقَدَّرُ حينئذٍ حَدَثٌ يكون الظرفُ الزمانيُّ حالاً عنه، وهذه المسألةُ سُئِلَ عنها الشيخُ أبو عمروٍ ابنُ الحاجبِ ونَقَّحَ فيها السؤالَ وأجابَ بنحوِ ما ذكَرْتُه واللَّهُ أعلمُ، ولا يخلُو الكلامُ فيها مِنْ نزاعٍ وبحثٍ طويلٍ معه.