التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً ٱنفَضُّوۤاْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً قُلْ مَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ ٱللَّهْوِ وَمِنَ ٱلتِّجَارَةِ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ
١١
-الجمعة

التسهيل لعلوم التنزيل

{ وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً ٱنفَضُّوۤاْ إِلَيْهَا } "سبب الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قائماً على المنبر يخطب يوم الجمعة، فأقبلت عير من الشام بطعام، وصاحب أمرها دحية بن خليفة الكلبي، وكانت عادتهم أن تدخل العير المدينة بالطبل والصياح سروراً بها، فلما دخلت العير كذلك انفض أهل المسجد إليها، وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً على المنبر، ولم يبق معه إلا اثنا عشر رجلاً. قال جابر بن عبد الله: أنا أحدهم" . وذكر بعضهم أن منهم العشرة المشهود لهم بالجنة، واختلف في الثاني عشر، فقيل: عبد الله بن مسعود، وقيل: عمار بن ياسر، وقيل: إنما بقي معه صلى الله عليه وسلم ثمانية وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال لهؤلاء: لقد كانت الحجارة سُوِّمت في السماء على المنفضين. وظاهر الآية يقتضي أن الجماعة شرط في الجمعة وهو مذهب مالك والجمهور، إلا أنهم اختلفوا في مقدار الجماعة الذين تنعقد بهم الجمعة؟ فقال مالك: ليس في ذلك عدد محدود، وإنما هم جماعة تقوم بهم قرية. وروى ابن الماجشون عن مالك ثلاثون. وقال الشافعي: أربعون. وقال أبو حنيفة: ثلاثة مع الإمام وقيل: اثنا عشر عدد الذين بقوا مع النبي صلى الله عليه وسلم.
فإن قيل: لم قال انفضوا إليها بضمير المفرد وقد ذكر التجارة واللهو؟ فالجواب من وجهين: أحدهما أنه أراد انفضوا إلى اللهو وانفضوا إلى التجارة، ثم حذف أحدهما لدلالة الآخر عليه. قاله الزمخشري. والآخر أنه قال ذلك مهتماً بالتجارة إذ كانت أهم، وكانت هي سبب اللهو، ولم يكن اللهو سببها، قاله ابن عطية.
{ وَتَرَكُوكَ قَآئِماً } اختلفوا في القيام في الخطبة هل هو وجب أم لا؟ وإذا قلنا بوجوبه فهل هو شرط فيها أم لا؟ فمن أوجبه واشترطه أخذ بظاهر الآية من ذكر القيام. ومن لم يوجبه رأى أن ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك لم يكن على الوجوب. ومذهب مالك أن من سنة الخطبة الجلوس قبلها والجلوس بين الخطبتين، وقال أبو حنيفة: لا يجلس بين الخطبتين لظاهر الآية وذكر القيام فيها دون الجلوس، وحجة مالك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم { قُلْ مَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ ٱللَّهْوِ وَمِنَ ٱلتِّجَارَةِ } إن قيل: لم قدم اللهو هنا على التجارة وقدم التجارة قبل هذا على اللهو؟ فالجواب: أن كل واحد من الموضعين جاء على ما ينبغي فيه؛ وذلك أن العرب تارة يبتدئون بالأكثر ثم ينزلون إلى الأقل كقولك: فلان يخون في الكثير والقليل فبدأت بالكثير ثم أردفت عليه الخيانة فيما دونه، وتارة يبتدئون بالأقل ثم يرتقون إلى الأكثر كقولك: فلان أمين على القليل والكثير فبدأت بالقليل ثم أردفت عليه الأمانة فيما هو أكثر منه، ولو عكست في كل واحد من المثالين لم يكن حسناً؛ فإنك لو قدمت في الخيانة القليل لعلم أنه يخون في الكثير. من باب أولى وأحرى، ولو قدمت في الأمانة ذكر الكثير لعلم أنه أمين في القليل من باب أولى وأحرى، فلم يكن لذكره بعد ذلك فائدة وكذلك قوله { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً ٱنفَضُّوۤاْ إِلَيْهَا }. قدم التجارة هنا ليبين أنهم ينفضون إليها، وأنهم مع ذلك ينفضون إلى اللهو الذي هو دونها وقوله: { خَيْرٌ مِّنَ ٱللَّهْوِ وَمِنَ ٱلتِّجَارَةِ } قدم اللهو ليبين أن ما عند الله خير من اللهو، وأنه أيضاً خير من التجارة التي هي أعظم منه، ولو عكس كل واحد من الموضعين لم يحسن.