التفاسير

< >
عرض

وَدَخَلَ مَعَهُ ٱلسِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّيۤ أَرَانِيۤ أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ ٱلآخَرُ إِنِّي أَرَانِيۤ أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ ٱلطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ
٣٦
قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّيۤ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ
٣٧
وَٱتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـيۤ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بِٱللَّهِ مِن شَيْءٍ ذٰلِكَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ
٣٨
يٰصَاحِبَيِ ٱلسِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ
٣٩
مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
٤٠
-يوسف

التفسير الكبير

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَدَخَلَ مَعَهُ ٱلسِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّيۤ أَرَانِيۤ أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ ٱلآخَرُ إِنِّي أَرَانِيۤ أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ ٱلطَّيْرُ مِنْهُ }؛ رُوي: أنه دخلَ على يوسُفَ بعدَ دخولهِ الخمسَ سنين عَبْدَانِ للملكِ، وهو صاحبُ شرابهِ وصاحبُ طعامهِ، غَضِبَ عليهما الملكُ، واتَّهَمَ صاحبَ الطعامِ أنه يريدُ أن يَسُمَّهُ، وصاحبَ الشَّراب بأنه مَالأَهُ على ذلك، وذلك أنَّ أعداءَ الملكِ أرادوا الْمَكْرَ بالملكِ واغتيالهِ، فطَلَبوا هذين وضَمِنُوا لهما مَالاً ليَسُمَّا طعامَ الملكِ وشرابَهُ، فأبَى السَّاقِي وقَبلَ الخبَّازُ الرِّشْوَةَ فسَمَّ الطعامَ.
فَلَمَّا حضرَ وقتهُ قال السَّاقِي: أيَّها الملكُ لا تأكُلْ فإنه مسمومٌ، وقال الخبازُ: أيُّها الملكُ لا تشرب فإنه مسمومٌ. فقال الملكُ للسَّاقي: اشْرَبْ، فَشَرِبَ فلم يضُرَّهُ، وقال للخباز: كُلْ من طَعامِكَ فأَبَى، فجرَّبَهُ الملكُ على دابَّة فأكلت من الطعامِ فمَاتَتْ، فأمرَ الملكُ بحبسِهما.
وكان يوسفُ قد قالَ لأهلِ السِّجن لَمَّا دخله: إنِّي أعَبرُ الأحلامَ، فقال أحدُ هَذين القيمين لصاحبهِ: هلُمَّ فلنُجَرِّبْ هذا العبدَ العَبْرَانِيَّ برُؤيا له، فسأَلاهُ من غيرِ أن يكونا رأيا شيئاً. قال ابنُ مسعود: (مَا رَأيَا شَيْئاً إنَّمَا كَانَا تَحَالَمَا عَلَيْهِ لِيُجَرِّبَا عِلْمَهُ).
وقال قومٌ: كانَا رأيَاها على حقيقةٍ ويقين، فقالَ السَّاقي: أيُّها العالِمُ إنِّي رأيتُ كأنِّي في بُستانٍ وإذا بكُرَةٍ عليها ثلاثةُ عناقيد فجنَيُتها، وكأنَّ كأسَ الملكِ بيدي فعصَرتُهم فيه وسقَيتُ الملكَ فشَرِبَهُ، وقال الخبَّازُ: إنِّي رأيتُ كأنَّ فوقَ رأسي ثلاثَ سِلاَلٍ من خُبْزٍ وألوانِ الأطعمَةِ فإذا سِبَاعُ الطيرِ تَنْهَشُه.
وإنما سُمي العنبُ باسمِ الخمر لأن الشيءَ يُسمَّى بما يؤُولُ إليهِ، وقال الضحَّاك: (الْخَمْرُ هُوَ الْعِنَبُ) بَعَيْنِهِ بلُغَةِ عُمَانَ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ (إنِّي أرَانِي أعْصِرُ عِنَباً). قال الأصمعيُّ: (أخْبَرَنِي الْمُعْتَزُّ أنَّهُ لَقِيَ أعْرَابياً مَعَهُ عِنَبٌ، فَقَالَ: مَا مَعَكَ؟ قَالَ: خَمْرٌ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: { نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ }؛ أي أخبرنا بتفسيرهِ وتعبيره، وما يؤولُ إليه أمرُ هذه الرُّؤيا، { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ }؛ أي العالِمين الذين أحسَنُوا العلمَ. وَقِيْلَ: من الْمُحسِنين إلينا إنْ قلتَ ذلك وفسَّرتَ رُؤيانا. وعن الضحَّاك في قولهِ تعالى: { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } قال: (كَانَ إحْسَانُهُ إذا مَرِضَ رَجُلٌ فِي السِّجْنِ قَامَ عَلَيْهِ، وَإذا أضَاقَ وَسَّعَ عَلَيْهِ، وَإذا احْتَاجَ سَأَلَ لَهُ). وقيل: إحسَانهُ أنه كان يُداوِي مَريضَهم، ويُعزِّي حَزينَهم.
قال: (فَكَرِهَ يُوسُفُ أنْ يُعَبرَ لَهُمَا لَمَا عَلِمَ فِيْهِ مِنَ الْمَكْرُوهِ عَلَى أحَدِهِمْ، فَأَعْرَضَ عَنْ سَؤَالِهِمَا وَأخَذ فِي غَيْرِهِ) و{ قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا }؛ أي لا يَأتِكُما طعامٌ تَطعَمَانِهِ وتأكُلانهِ إلاّ نبَّأتُكما بتفسيرهِ وَلَونهِ أيَّ طعامٍ أكلتمُوهُ، قالاَ له: هذا مِن فعلِ الكَهَنةِ، قال: ما أنَا بَكاهنٍ وإنما: { ذٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّيۤ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ }.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَٱتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـيۤ }؛ أي شَريعَةَ آبَائي، { إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بِٱللَّهِ مِن شَيْءٍ ذٰلِكَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ }؛ وباقِي الآيةِ ظاهرُ المعنى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { يٰصَاحِبَيِ ٱلسِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ }؛ وذلك أنَّ يوسف عليه السلام رأى أهلَ السِّجن وبين أيدِيهم أصنامٌ يعبُدونَها فدعَاهم إلى الإسلامِ وألزَمَهم الحجَّةَ، فقالَ لَهم: أربابٌ متفرِّقون شتَّى لا تضرُّ ولا تنفعُ خيرٌ أمِ اللهُ الواحد القهَّارُ الذي لا ثانِي له؟
ثم بيَّن عجزَ الأصنامِ وضَعفَها فقال: { مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ }؛ آلِهة من غيرِ أن يكون لتلكَ التسميةِ حقيقةً، { مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ } أي من حجَّة وبرهان، { إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ } أي ما القضاءُ والأمر والنَّهيُ إلا للهِ، { أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ }. قَوْلُهُ تَعَالَى: { ذٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ }؛ أي الذي أدعُوكم إليه هو الدِّينُ القائمُ الذي يرضاهُ لا عِوَجَ فيه، { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }.