التفاسير

< >
عرض

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً
٨٥
-الإسراء

التفسير الكبير

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي }؛ اختلَفُوا في الذي سأَلُوا عنه النبيَّ صلى الله عليه وسلم، قال بعضُهم: سأَلوهُ عن جبريلَ قد سَمَّاهُ اللهُ روحاً في قولهِ تعالى { { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا } [الشورى: 52]، وعن عليٍّ رضي الله عنه قالَ: (إنَّ الرُّوحَ مَلَكٌ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ لَهُ سَبْعُونَ ألْفَ وَجْهٍ، فِي كُلِّ وَجْهٍ سَبْعُونَ ألْفَ لِسَانٍ يُسَبحُ اللهَ تَعَالَى بكُلِّ لِسَانٍ مِنْ هَذِهِ الأَلْسِنَةِ، فَسَأَلُوهُ عَنْ ذلِكَ الْمَلَكِ).
وعن عبدِالله بن مسعود قال: (كُنْتُ أمْشِي مَعَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَمَرَّ بقَوْمٍ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: اسْأَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ تَسْأَلُوهُ، ثُمَّ أتَاهُ نَفَرٌ مِنْهُمْ فَقَالُواْ لَهُ: يَا أبَا الْقَاسِمِ مَا تَقُولُ فِي الرُّوحِ؟ فَسَكَتَ، ثُمَّ قَامَ فَاشْتَدَّ بيَدِهِ عَلَى جَبْهَتِهِ، فَعَرَفْتُ أنَّهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ وَحْيٌ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ... } الآية).
وعنِ ابن عبَّاس: (أنَّ الْيَهُودَ اجْتَمَعُواْ فَقَالُواْ لِقُرَيْشٍ: سَلُوا مُحَمَّداً فِي ثَلاَثٍ، فَإنْ أخْبَرَكُمْ باثْنَيْنِ وَأمْسَكَ عَنِ الثَّالِثَةِ فَهُوَ نبيٌّ، سَلُوهُ عَنْ فِتْيَةٍ مَضَوا فِي الزَّمَانِ، وَعَنْ رَجُلٍ بَلَغَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، وَاسْأَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ. فَسَأَلُوهُ عَنْ ذلِكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي الْفِتْيَةِ
{ { أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ ٱلْكَهْفِ وَٱلرَّقِيمِ } [الكهف: 9] ... إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ، وَأنْزَلَ اللهُ { { وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي ٱلْقَرْنَيْنِ } [الكهف: 83] ... إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ، وَأنْزَلَ اللهُ فِي الرُّوحِ { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ... } الآيَةُ، وإنَّمَا سَأَلَتْهُ الْيَهُودُ عَنِ الرُّوحِ لأَنَّهُ لَيْسَ فِي التَّوْرَاةِ قِصَّتُهُ وَلاَ تَفْسِيرُهُ، وَلَيْسَ فِيهَا إلاَّ ذِكْرُ اسْمِهِ الرُّوحُ).
وقال سعيدُ بن جبير: (لَمْ يَخْلُقِ اللهُ خَلْقاً أعْظَمَ مِنَ الرُّوحِ غَيْرَ الْعَرْشِ، لَوْ شَاءَ أنْ يَبْلَعَ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَالأَرْضَ السَّبْعِ وَمَنْ فِيْهِمَا بلُقْمَةٍ فَعَلَ، صُورَةُ خَلْقِهِ عَلَى صُورَةِ الْمَلاَئِكَةِ، وَصُورَةُ وَجْهِهِ عَلَى وَجْهِ الآدَمِيِّينَ، وَلَوْلاَ أنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَلاَئِكَةِ سِتْراً مِنْ نُورٍ لاحْتَرَقَتِ السَّمَاوَاتُ مِنْ نُوره).
ويقالُ: أرادَ بالرُّوحِ روحَ الحيوانِ وهو ظاهرُ الكلامِ، وفي روحِ الحيوان خِلافٌ بين العلماءِ، وكلُّ حيوانٍ فهو روحٌ وبَدَنٌ، وروحُ الحيوان جسمٌ رقيق على بُنيَةٍ حيوانيَّة، في كلِّ جُزءٍ منها حياةٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } أي من الأمرِ الذي لا يعلمهُ إلا ربي، وإنما لم يُجِبْهُمْ عن ذلك؛ لأن اليهودَ هم الذين سألوهُ عن الروحِ، وكان في كتابهم أنه إنْ أجابَهم عن الروحِ فليس بنبيٍّ! فلم يُجِبهُم تصديقاً لِمَا في كتابهم، وكانت المصلحةُ في هذا أن لا يُعرِّفَهم الروحَ من جهة النصِّ، بل يكلِّمُهم في تعريفهِ إلى ما في عقولهم، لِمَا في ذلك من الرياضةِ باستخراج الفائدة.
وقال بعضُهم: هو الدمُ! ألا ترَى أنه مَن نَزَفَ دمهُ ماتَ، والْمَيْتُ لا يَفْقُدُ من جسمهِ إلا الدمَ. وزعمَ قومٌ: أن الروحَ هو استنشاقُ الهواءِ، ألا ترَى أن المخنوقَ ومَن مُنِعَ استنشاقُ وشَمُّ الهواءِ يموتُ.
وقال بعضُ الحكماء: إن اللهَ خَلَقَ الروحَ من ستَّة أشياء: من جوهرِ النُّور والطِّيب والهواءِ لبقاء الحياةِ والعلمِ والعلُوِّ، ألا ترَى أنه ما دامَ في الجسدِ كان الجسدُ نورانياً تبصرُ العينان، وتسمَعُ الأُذنان، ويكون طَيِّباً، فإذا خرجَ انتنَّ الجسدُ، ويكون باقياً فإذا زَايَلَتْهُ الروحُ صارَ فانياً، ويكون حَيّاً وبخروجهِ ميتاً، ويكون عالِماً فإذا خرجَ منه الروحُ صار سُفْلِيّاً بالياً.
والاختيارُ من هذه الأقوالِ: أنه جسمٌ لطيف يوجَدُ فيه الحياةُ! بدليلِ قولهِ تعالى في صفةِ الشُّهداء:
{ { أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ } [آل عمران: 169-170] والأرزَاقُ والفَرَحُ من صفةِ الأجسامِ، والمرادُ بهذا أرواحُهم؛ لأن أجسادَهم قد بَلِيَتْ في التراب، وكذلك قولهُ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ تُعَلَّقُ فِي شَجَرَةٍ مِنَ الْجَنَّةِ، وَتَأْوِي إلَى قَنَادِيلَ مُعَلَّقَةٍ تَحْتَ الْعَرْشِ" وهذا لا يكون إلا في جسمٍ، ولا يتأتَّى ذلك في الأعراضِ كما زَعمت المعتزلةُ والنجارِية: أن الروحَ عرَضٌ، وهو مردودٌ بما ذكرناهُ.
وعن ابن عبَّاس: (أنَّ الرُّوحَ إذا خَرَجَ مَاتَ الْجَسَدُ، وَصَارَ الرُّوحُ صُورَةً أُخْرَى لاَ تُطِيقُ الْكَلاَمَ؛ لأَنَّ الْجَسَدَ جُرْمٌ، وَالرُّوحُ يُصَوِّتُ مِنْ جَوْفِهِ وَيَتَكَلَّمُ، فَإذا فَارَقَ الْجَسَدَ صَارَ الْجَسَدُ صِفْراً، وَصَارَ الرُّوحُ صُورَةً أُخْرَى يَنْظُرُ النَّاسُ سُكُونَهُ، وَيَغْسِلُونَهُ وَيَدْفِنُونَهُ وَلاَ يَسْتَطِيعُ أنْ يَتَكَلَّمَ، كَمَا أنَّ الرِّيحَ إذا دَخَلَ فِي مَكَانٍ ضَيِّقٍ سَمْعْتَ لَهُ دَويّاً، فَإذا خَرَجَ مِنْهُ لَمْ تَسْمَعُ لَهُ صَوْتاً، وَكَذلِكَ الْمَزَامِيرُ، فَأَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ يَنْظُرُونَ إلَى الْجَنَّةِ وَيَجِدُونَ ريحَهَا، وَأرْوَاحُ الْكُفَّارِ يُعَذبُونَ فِي قُبُورهِمْ).
وهذا الذي ذكرناهُ كلُّه في تفسيرِ الروح عند التحقيقِ منَ التكلُّفِ؛ لأن اللهَ سُبحانَهُ أبْهَمَ علمَ ذلكَ، قال عبدُاللهِ بن يزيد: (مَا بَلَغَ الإنْسُ وَالْجِنُّ وَالْمَلاَئِكَةُ وَالشَّيَاطِينُ عِلمَ الرُّوحُ، وَلَقَدْ مَاتَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا يَدْري مَا الرُّوحُ، وَلَمْ يُخْبرِ اللهُ أحَداً مِنْ خَلْقِهِ بهِ، وَلَمْ يُعْطِ أحَداً عِلْمَهُ مِنَ عِبَادِهِ، فَقَالَ: { قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } أيْ مِنْ عِلْمِ رَبي وإنَّكُمْ لاَ تَعْلَمُونَهُ)
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً }؛ أي وما أُوتِيتُم من العلمِ المنصوصِ عليه، إلا قليلاً من كثيرٍ بحسب حاجَتِكم إليه، قُلْ: فالروحُ من المتروكِ الذي لا يصلحُ النصُّ عليه لأمورٍ من الحكمة تقتضِي تركَهُ. والخطابُ لليهودِ، وذلكَ أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قرأ هذه الآيةَ على اليهودِ، قالوا: أُوْتِينَا التوراةَ وفيها الحكمةُ، ومَن يؤتَ الحكمةَ فقد أُوتِيَ خَيراً كثيراً، فأعلَمَهم اللهُ أنَّ علمَ التوراةِ قليلٌ في علمِ الله تعالى
{ { وَلَوْ أَنَّمَا فِي ٱلأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَٱلْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ ٱللَّهِ } [لقمان: 27].