التفاسير

< >
عرض

وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً
٧١
ثُمَّ نُنَجِّي ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّنَذَرُ ٱلظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً
٧٢
-مريم

التفسير الكبير

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا }؛ اختلَفُوا في الخطاب الذي في أوَّل هذه الآيةِ، قال بعضُهم: هو راجعٌ إلى الكفارِ؛ لأنه تقدَّمَه قَوْلُهُ تَعَالَى: { { ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِٱلَّذِينَ هُمْ أَوْلَىٰ بِهَا صِلِيّاً } [مريم: 70]، وقالَ الأكثرون: هذا خطابٌ مبتدَأ لجميعِ الخلقِ، ودليلهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: { ثُمَّ نُنَجِّي ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّنَذَرُ }؛ أي نُنْجِي مِن الواردينَ مَنِ اتَّقَى.
ثُم اخْتَلَفَ هؤلاءِ أيضاً في معنى الْوُرُودِ، قال بعضُهم: هو الدُّخُولُ كما في قولهِ تعالى
{ فَأَوْرَدَهُمُ ٱلنَّارَ } [هود: 98] أي أدْخَلَهم النارَ، وقالوا: إلاّ أنَّها تكونُ على المؤمنينَ بَرْداً وسَلاماً، واستدلُّوا بما روى جابرٌ رضي الله عنه: أنَّهُ أهْوَى بيَدَيْهِ إلَى أُذُنَيْهِ وَقَالَ: صُمَّتا إنْ لَمْ أكُنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "الْوَرُودُ الدُّخُولُ، لاَ يَبْقَى بَرٌّ وَلاَ فَاجِرٌ إلاَّ دَخَلَهَا، فَتَكُونُ عَلَى الْمُؤْمِنِيْنَ بَرْداً وَسَلاَماً، كَمَا كَانَتْ عَلَى إبْرَاهِيْمَ، حَتَّى أنَّ لِلنَّارِ ضَجِيْجاً بوُرُودِهِم" . وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ لَهُ ثَلاَثةُ أوْلاَدٍ لَمْ يَلِجِ النَّارَ إلاَّ تَحِلَّةَ الْقَسَمِ، ثُمَّ قَرَأ: { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا }" .
ومعنى القَسَمِ: أن أولَ هذه الآيةِ فيها إضمارُ القَسَمِ؛ تقديرهُ: وَاللهِ مَا مِنْكُمْ مِنْ أحَدٍ إلاَّ وَارِدُهَا، ورُويَ عن ابنِ مسعود أنهُ قال: "الصِّرَاطُ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ مِثْلُ حَدِّ السَّيْفِ، تَمُرُّ عَلَيْهِ الطَّائِفَةُ الأُوْلَى كَالْبَرْقِ، وَالثَّانِيَةُ كَالرِّيْحِ، وَالثَّالِثَةُ كَالْجَوَادِ السَّابقِ، وَالرَّابعَةُ كَأَجْوَدِ الْبَهَائِمِ، ثُمَّ يَمُرُّونَ وَالْمَلاَئِكَةُ يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ؛ اللَّهُمَّ سَلِّمْ"
]. وعن أبي هريرةَ: أنَّهُ أوَى إلَى فِرَاشِهِ فَقَالَ: (يَا لَيْتَ أُمِّي لَمْ تَلِدْنِي، فَقَالَتِ امْرَأتُهُ مَيْسَرَةُ: إنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أحْسَنَ إلَيْكَ، هَدَاكَ إلَى الإسْلاَمِ. قَالَ: أجَلْ؛ وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ لَنَا أنَّا لَوَارِدُونَ النَّارَ، وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أنَّا خَارجُونَ مِنْهَا).
وقال بعضُهم: الورودُ هو الإشرافُ على النار بلا دخولٍ؛ لأن موضعَ المحاسبةِ يكون قريباً من النار، وقد قَالَ اللهُ تَعَالَى:
{ وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ } [القصص: 23] ولَم يكن موسى دَخَلَ الماءَ، واستدَلُّوا بما روي أن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "لَنْ يَدْخُلَ النَّارَ - إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى - وَاحِدٌ شَهِدَ بَدْراً أو الْحُدَيْبيَةَ" .
وعن مجاهدٍ أنهُ قالَ: (الْحُمَّى حَظُّ كُلِّ مُؤْمِنٍ مِنَ النَّارِ). فعلَى هذا مَن حَمَّ مِن المسلمينَ فقد وَرَدَهَا، لأن الْحُمَّى مِن فَيْحِ جهنَّم.
"وعن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ عَادَ مَرِيْضاً مِنْ وَعَكٍ كَانَ بهِ، فَقَالَ لَهُ: أبْشِرْ؛ إنَّ اللهَ يَقُولُ: هِيَ نَارِي أُسَلِّطُهَا عَلَى عَبْدِي الْمُؤْمِنِ لِتَكُونَ حَظَّهُ مِنَ النَّار" .
قال الزجَّاجُ: (وَالْحُجَّةُ الْقَاطِعَةُ عَلَى أنَّهُمْ لاَ يَدْخُلُونَ النَّارَ قَوْلُهُ تَعَالَى: { { إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا ٱلْحُسْنَىٰ أُوْلَـٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا ٱشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ } [الأنبياء: 101-102]) وهذهِ حُجَّةٌ لا معارضَ لَها.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً }؛ الْحَتْمُ: القطعُ بالأمرِ، والمقضيُّ هو الذي قَضَى بأنه يكونُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: { ثُمَّ نُنَجِّي ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ }؛ أي الذينَ اتَّقوا الشركَ وصدَّقوا، { وَّنَذَرُ ٱلظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً }؛ أي وَنَذرُ المشركينَ فيها جِثِيّاً على الرُّكب.