التفاسير

< >
عرض

وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَـٰطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَـٰنَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـٰنُ وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيَـٰطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحْرَ وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى ٱلْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَـٰرُوتَ وَمَـٰرُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ ٱشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلَٰـقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ
١٠٢
-البقرة

التفسير الكبير

قوله عَزَّ وَجَلَّ: { وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَـٰطِينُ }؛ يعني اليهود. وهو عطف على { { نَبَذَ فَرِيقٌ } [البقرة: 101] كأنه قال: انبذُوا كتابَ الله واتَّبعوا ما تتلوا الشياطينُ من السِّحر، { عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَـٰنَ }؛ ومعنى { مَا تَتْلُواْ } يعني ما تَلَتْ قبلهم شياطينُ الجن والإنس { عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَـٰنَ } أي على عهدِ ملك سليمان، قيل: معنى تتلو تكذبُ، يقال: فلان تَلاَ من فلان؛ إذا صدَقَ في الحكاية عنه، وتلى عليهِ إذا كذبَ عليه؛ كما يقال: تالٍ عنه وتالٍ عليه.
وقال ابنُ عبَّاس: (تَتْلُو؛ أي تَتْبَعُ وَتَعْمَلُ). وقال عطاءُ: (تَتَحَدَّثُ وَتَتَكَلَّمُ بهِ). وقرأ الحسنُ: (الشَّيَاطُونُ) بالواو في موضع الرفعِ في كلِّ القرآن. وسُئل أبو حامد الخارجي عن قراءة الحسنِ هذه فقال: (هِيَ لَحْنٌ فَاحِشٌ عِنْدَ أكْثَرِ أهْلِ الأَدَب). غيرَ أن الأصمعيَّ زعم أنه سَمِعَ أعرابياً يقول: بُسْتَانُ فلان حَوْلَهُ (بَسَاتُون).
وقصةُ ذلك: أن الشياطينَ كتبوا السحرَ والنيرنجات على لسان آصف: هذا ما علَّم آصف بن برخيا سليمان الملك. ثم دفنوها تحت مُصَلاَّهُ حين نزعَ الله مُلكه ولم يشعر بذلك سليمان. فلما مات عليه السلام استخرجوها من تحتِ مُصَلاَّهُ وقالوا للناس: إنَّما مَلَكَكُمْ سليمانُ بهذا، فتعلموهُ. وأما علماء بني إسرائيل وصلحاؤُهم فقالوا: معاذ الله أن يكون هذا علمُ سليمان؛ فلا نتعلمهُ.
وأما السَّفَلَةُ فقالوا: هذا عِلمُ سليمان وأقبلوا على تَعَلُّمِهِ؛ ورفضوا كُتُبَ أنبيائهم وقالوا: إنَّما تمَّ ملكهُ بالسِّحرِ وبه سحرَ الجن والإنس والطير والرياح. فلم يزالوا على ذلك الاختلافِ وفَشَتِ الْمَلاَمَةُ لسليمان حتى بعث الله تعالى مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم وأنزل عذرهُ على لسانه وأظهر براءتهُ مما رُمي به من الكفر تكذيباً لليهود، فقال عَزَّ وَجَلَّ: { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـٰنُ وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيَـٰطِينَ كَفَرُواْ }؛ أي هم الذين كتبوا السحرَ وهم الذين يعلِّمونه الناسَ. هذا قولُ الكلبي.
وقال السديُّ: كانت الشياطينُ تصعدُ إلى السماء فتقعد منها مقاعدَ للسمع؛ فيسمعون كلام الملائكة فيما يكون في الأرض من موتٍ أو غيره؛ فيأتون الكهنةَ فيخلطون بما سمعوا كذباً وزوراً في كلِّ كلمة سبعين كذبة. ويخبرونَهم بذلك؛ فالتفت الناس إلى ذلك وفشَى في بني إسرائيل أن الجنَّ تعلم الغيبَ. فبعث سليمانُ في الناس وجمعَ تلك الكتب وجعلها في صندوقٍ ودفنها تحت كرسيِّه، وقال: (لاَ أسْمَعُ أحَداً يَقُولُ إنَّ الشَّيَاطِيْنَ تَعْلَمُ الْغَيْبَ إلاَّ ضَرَبْتُ عُنُقَهُ). فلما ماتَ سليمان صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ ضَلَّ الناسُ وذهبت العلماء الذين كانوا يعرفون أمرَ سليمان. فتمثَّلَ شيطانٌ على صورة إنسان، وأتى نَفَراً من بني إسرائيلَ، وقال: هل أدلُّكم على كنْزٍ؟ قالوا: نَعَمْ، قال: احفروا تحت الكرسيِّ، وذهبَ معهم فأراهم المكانَ فحفروا فوجدوا تلك الكُتُبَ؛ فلما أخذوها، قال الشياطينُ: إن سليمانَ كان يضبط الجنَّ والإنسَ والشياطين بهذه الكتب، وأفشَى في الناس أن سليمانَ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ كان سَاحراً. واتخذ بنُو إسرائيلَ الكتبَ. ولذلك أكثرُ ما يوجدُ السحرُ في اليهود. فلما جاءَ محمَّد صلى الله عليه وسلم خاصمت اليهودُ بذلك، فَبَرَّأ الله سليمانَ وأنزل هذه الآية. قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـٰنُ } أي بالسِّحرِ؛ فإن السحرَ كفرٌ { وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيَـٰطِينَ كَفَرُواْ }.
قرأ أهلُ الكوفة إلا عاصماً؛ وأهلُ الشام بتخفيفِ النون ورفعِ الشياطين؛ وكذلكَ في الأنفال:
{ { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ } [الأنفال: 17] { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ } [الأنفال: 17]. وقرأ الباقون بالتشديدِ ونصب ما بعده.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحْرَ }؛ قال بعضُهم: السِّحْرُ: العلمُ والحذقُ بالشيء؛ قال الله تعالى:
{ { وَقَالُواْ يَٰأَيُّهَ ٱلسَّاحِرُ } [الزخرف: 49] أي العالِمُ. وقال بعضُهم: هو التَّمْوِيْهُ بالشيء حتى يُتَوهَّمَ أنه شيء ولا حقيقةَ له كالسراب عندَ مَن رآهُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: { { يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ } [طه: 66].
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى ٱلْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ }، محَلُّ (ما) نُصِبَ بإيقاعِ التعليم عليه، معناه: ويعلِّمون الذي أُنزل على الملَكين. ويجوزُ أن يكون نصباً بالاتباعِ؛ أي واتبعوا ما أُنزل على الملَكين. قرأ ابنُ عباس والحسنُ والضحاك ويحيى وابن كثير: بكسرِ اللام من (الْمَلِكَيْنِ) وقال: هما رجُلان ساحران كانا ببَابلَ؛ لأن الملائكةَ لا يعلمونَ الناس السحرَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { بِبَابِلَ }؛ هي بابلُ العراقِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: { هَـٰرُوتَ وَمَـٰرُوتَ } اسمان سريانيَّان؛ وهما في محَل الخفض على تفسير الْمَلِكَيْنِ بدلاً منهما، إلا أنَّهما فُتحا لعجمتهما ومعرِفتهما. وكانت قصتُهما على ما حكاهُ ابن عباس والمفسرونَ: أن الملائكةَ رأوا ما يصعدُ إلى السماء من أعمالِ بني آدمَ الخبيثة وذنوبهم الكثيرة وذلك زمنَ إدريس عليه السلام، فعيَّروهم بذلك؛ وقالوا: هؤلاءِ الذين جَعَلْتَهُمْ في الأرض واخترتَهم؛ فهم يعصونَك! فقال اللهُ تعالى: لو أنزلتكم إلى الأرضِ وركَّبت فيكم ما ركَّبت فيهم لارتكبتُم ما ارتكبوا. فقالوا: سبحانَكَ ما كان ينبغي لنا أن نَعصيك. قال اللهُ تعالى: فاختاروا مَلِكَيْنِ من خياركم؛ أُهْبطْهُمَا إلى الأرضِ. فاختاروا هَارُوتَ وَمَارُوتَ؛ وكانا من أعْبَدِ الملائكةِ وأصلَحِهم. فركَّب الله فيهما الشهوةَ وأهْبَطَهما إلى الأرضِ؛ وأمرَهُما أن يحكُمَا بين الناس بالحقِ؛ ونَهاهما عن الشركِ والقتل بغيرِ حقٍّ والزنا وشرب الخمر، فكانا يقضيان بين الناس يومَهما، فإذا أمسيَا ذكرَا اسمَ اللهِ الأعظم، وصُعد به إلى السماء.
قال قتادةُ: فما مرَّ عليهما شهرٌ حتى افتُتِنا، وذلك أنه اختصم إليهما ذاتَ يوم الزُّهْرةُ؛ وكانت مِن أجملِ النساء، وكانت من أهلِ فارسَ، ملكةٌ في بلدها. فلما رأيَاها أخذت بقلوبهما فراوَدَاها عن نفسِها فأبَتْ وانصرفت؛ ثُمَّ عادت في اليومِ الثاني ففعلاَ مثلَ ذلك، فأَبَتْ وقالت: لاَ؛ إلاَّ أن تعبدوا ما أعبدُ وتصلِّيا لِهذا الصنَم؛ وتقتُلا النفسَ؛ وتشربا الخمرَ. فقالا: لاَ سبيلَ إلى هذا، فإنَّ الله تعالى نَهانا عنها؛ فانصرفَتْ. ثم عادت في اليومِ الثالث ومعها قدحٌ من الخمرِ وفي أنفسِهما من الْمَيْلِ إليها ما فيها، فراوَدَاها عن نفسِها؛ فعرضَتْ عليهما ما قالت بالأمسِ فقالا: الصلاةُ لغيرِ الله عظيمٌ؛ وقتلُ النفس عزيزٌ وأهونُ الثلاثة شربُ الخمرِ؛ فشربا فَانْتَشَيَا ووقَعَا بالمرأةِ وَزَنَيَا، فلما فرغَا رآهما إنسانٌ فقتلاَهُ. قال الربيعُ بن أنس: وسَجَدَا للصنمِ. فمسخَ الله عَزَّ وَجَلَّ الزُّهْرَةَ كوكباً.
وقال السديُّ والكلبيُّ: إنَّهما لَمَّا قالت لهما: لن تدركانِي حتى تُخبراني بالذي تصعدانِ به إلى السماءِ؟ فقالا: بالاسمِ الأكبر. فقالت: ما أنتُما مدركانِي حتى تُعَلِّمَانِيه؟ قال أحدُهما للآخر: علِّمها؟! قال: إني أخافُ الله. قال الآخر: فأينَ رحمةُ الله؟ فعلَّماها ذلك فتكلمت به وصعدت إلى السماءِ؛ فمسخَها الله كوكباً. فعلى قول هؤلاء: هي الزهرةُ بعينها، وقيَّدوها فقالوا: هي الكوكبُ الأحمر.
يدلُّ على صحة هذا القول ما رويَ عن عليٍّ رضي الله عنه قال:
"كَانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا رَأى سُهَيْلاً قَالَ: لَعَنَ اللهُ سُهَيْلاً إنَّهُ كَانَ عَشَّاراً بالْيَمَنِ، وَإذَا رَأى الزُّهْرَةَ قَالَ: لَعَنَ اللهُ الزُّهْرَة، فَإنَّهَا فَتَنَتْ مَلَكَيْنِ" . وكان ابنُ عمر رضي الله عنهما إذا رأى الزهرةَ قال: (لاَ مَرْحَباً وَلاَ أهْلاً). وعن ابنِ عباس: أنَّ المرأةَ التي فَتَنَتْ هاروت وماروتَ مُسخت، فهي هذا الكوكبُ الحمراء. يعني الزُّهرة.
وأنكرَ الآخرون هذا؛ وقالوا: إن الزهرةَ من الكواكب السبعة السيارة التي أقسمَ اللهُ تعالى بها؛ فقالَ:
{ { فَلاَ أُقْسِمُ بِٱلْخُنَّسِ } [التكوير: 15] وإنَّما المرأةُ التي فَتَنَتْ هاروتَ وماروت كان اسْمُها زَهْرَةٌ من جَمالها؛ فلما رأى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الزهرةَ ذكرَ هذه المرأةَ لِموافقة الاسمين؛ فَلَعَنَهَا. وكذلك سهيلٌ كان رجُلاً عشَّاراً باليمن فلما رأى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم النجمَ ذكرهُ؛ فلعنَهُ؛ واللهُ تعالى أعلمُ.
قال المفسرون: فلمَّا أمسَى هاروتُ وماروت بعدما أصابَا الذنبَ هَمَّا بالصعودِ إلى السماءِ فلم تطاوعْهُما أجنحتُهما، فَعَلِمَا ما حَلَّ بهما، فقصدا إدريسَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فأخبراهُ بأمرهما وأمَرَاهُ أن يشفعَ لهما؛ وقالا: إنا رأيناك يصعدُ لك من العبادةِ مثلَ ما يصعدُ لجميع أهل الأرض، فاشفَعْ لنا إلى رَبكَ؟ ففعلَ إدريسُ؛ فخيَّرهما اللهُ تعالى بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرةِ، فاختارَا عذابَ الدنيا؛ إذ عَلِمَا أنه ينقطعُ، فهما ببَابلَ يُعَذَّبَانِ.
واختلفَ العلماءُ في عذابهما؛ فقال ابن مسعود: (هُمَا مُعَلَّقَانِ بشُعُورِهِمَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ). وقال قتادةُ: (كُبلاَ مِنْ أقْدَامِهِمَا إلَى أُصُولِ أفْخَاذِهِمَا). وقال مجاهدُ: (أنَّ جُبّاً مُلِيَتْ نَاراً فَجُعِلاَ فِيْهَا). وقيل: معلقان مُنَكَّسَانِ بالسلاسل. وقيل: منكوسانِ يُضربان بسياط الحديد.
وروي أنَّ رجُلاً أراد تعلُّمَ السحر فقصدَهما؛ فوجدهما معلَّقين بأرجُلِهما؛ مُزْرَقَّة أعينهما؛ مسوَّدة وجوههما؛ ليس بين ألسِنَتهما وبين الماءِ إلا قدرُ أربعِ أصابع وهما معذَّبان بالعطش؛ فلما رأى ذلك هَالَهُ مكانُهما؛ فقال: لاَ إله إلا اللهِ. فلما سَمعا كلامهُ، قالا: مَنْ أنْتَ؟ قال: رجلٌ من الناس. قالوا: ومن أيِّ أُمَّةٍ؟ قال: من أُمَّةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم. قالا: أوَقَدْ بُعث محمدٌ؟ قال: نَعَمْ. قالا: الحمدُ لله وأظهرا الاستبشارَ. وقال الرجل: وممَّ استبشارُكما؟ قالا: إنه نَبيُّ الساعةِ، وقد دَنَا انقضاءُ عذابنا.
قوله عَزَّ وَجَلَّ: { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ }؛ يعني الملَكين؛ و{ مِنْ } صلةٌ؛ أي لا يُعلِّمان أحداً السحرَ، { حَتَّىٰ }؛ ينصحاهُ أولاً وينهياه و{ يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ }، ومحنةٌ؛ { فَلاَ تَكْفُرْ }، بتعلُّم السحرِ. يقولان له ذلك سبعَ مرَّات. قال السديُّ وعطاء: (فإنْ أبَى إلاَّ التَّعَلُّمَ! قالاَ لهُ: ائْتِ هَذِهِ الرَّمَادَ فَبُلْ عَلَيْهِ؛ فإذَا بَالَ عَلَيْهِ خَرَجَ مِنْهُ نُورٌ يَسْطَعُ فِي السَّمَاءِ؛ فَتِلْكَ الْمَعْرِفَةُ. وَيَنْزِلُ شَيْءٌ أسْوَدُ حَتَّى يَدْخُلَ مَسَامِعَهُ يُشْبهُ الدُّخَانَ؛ وَذَلِكَ غَضَبُ اللهِ).
وقوله عَزَّ وَجَلَّ: { إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ } { إِنَّمَا } وحَّدها لأنَّها مصدرٌ؛ والمصدر لا يثنَّى ولا يُجمع مثل قوله:
{ { وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ } [البقرة: 7]. وفي مصحف أُبَي: (وَمَا يُعَلِّمُ الْمَلَكَانِ مِنْ أحَدٍ). وتعلُّم السحر لا يكون إثْماً؛ كمن يقولُ لرجلٍ: علِّمني ما الزِّنا، وما السرقةُ؟ فيقول: هو كذا وكذا؛ ولكنه حرامٌ فلا تفعلْهُ. وهما كانا لا يَصِفَانِ السحرَ لأحد حتى يقولا: إنَّما نحنُ اختبار وابتلاء للناس؛ فلا تَكْفُرْ أيها المتعلِّمُ؛ أي لا تتعلَّم للعملِ به.
وعن عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا؛ قالت: قَدِمَتْ عليَّ امرأة من أهل دَوْمَةِ الْجَنْدَلِ تَبْغِي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بعد موته لتسألَهُ عن شيء دخلت فيه من أمرِ السِّحْرِِ ولم تعملَ به، فلما لم تَجِدْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بكت حتى رحمتُها، وقالت: إنِّي أخافُ أن أكون قد هلكتُ؛ كان لي زوجٌ فغاب عنيِّ، فدخلتُ على عجوزٍ فشكوت ذلك إليها، فقالت: إن فعلتِ ما آمُرك فأجعله يأتيك. فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين فركبَتْ أحدهما وركبْتُ الآخرَ، فلم يكن كثيراً حتى وقفنا ببَابلَ، فإذا برجلين معلَّقين بأرجلهما، فقالا: ما جاءَ بكنَّ؟ قلتُ: لنتعلَّم السحرَ، فقالا: إنَّما نحنُ فتنة فلا تَكْفُرِي وارجعي، فقلت: لاَ، قالا: إذهبي إلى ذلك التنُّور؛ فبولِي فيه. فذهبتُ ففزعتُ ولم أفعل فجئتُ إليهما، فقالا لي: فعلتِ؟ فقلت: نعم، فقالا: هل رأيتِ شيئاً؟ قلتُ: لاَ، قالا: كذبتِ، إنك لم تفعلي، ارجعي إلى بلادِك، إنَّما نحنُ فتنةٌ فلا تكفري. فأبيتُ، قالاَ: إذهبي إلى تلك التنُّور فبولِي فيه، فذهبتُ فاقشعرَّ جِلدي فرجعتُ إليهما، فقلت: قد فعلتُ: قالا: هل رأيتِ شيئاً؟ قلتُ: لاَ، قالا: كذبتِ، لم تفعلي ارجعي إلى بلادك فلا تكفري. فأَبَيْتُ. قالا: إذهبي إلى تلك التنور فبولِي فيه، فذهبتُ فبلت فيه، فرأيت فَارساً مقنَّعاً بحديدٍ خرجَ مني حتى ذهبَ في السماء وغابَ عني حتى لم أره، فجئتهما، فقلتُ: قد فعلتُ، فقالا لي: ما رأيتِ؟ قلتُ: رأيت فارساً مقنَّعاً بالحديد، خرج مني فذهبَ في السماء حتى غابَ، قالا: صدقتِ، ذاك إيْمانُك خرجَ منك، إذهبي. فلما رأيتُ أني لا أريدُ شيئاً إلا كانَ سُقِطَ في يدي وندمتُ والله يا أمَّ المؤمنين، ما فعلتُ شيئاً قطْ ولآ أفعلهُ أبداً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَزَوْجِهِ }، قيل: معناهُ: فيعملُ به السامع؛ فيكفُر بالعمل؛ فتقعُ الفرقةُ بينه وبين زوجتِه بالردَّة، إذا كانت مسلمةً. وقيل: معناه: يسعَى بينهما بالنميمةِ والإغراءِ والإفشَاء وتَمويه الباطلِ لكي يبغضَ كلُّ واحد منهما صاحبَه فيفارقه.
قرأ الحسنُ (بَيْنَ الْمَرِّ) بالتشديدِ. وقرأ الزهريُّ: بضمِّ الميم والهمزة. وقرأ الباقون بفتحِ الميم والهمزة. { وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ }؛ أي بالسحرِ، { مِنْ أَحَدٍ }؛ أي أحداً؛ وقولهُ: { إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ }؛ أي بعِلْمِهِ وقضائهِ ومشيئته.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ }؛ أي يضرُّهم في الآخرةِ ولا ينفعهم في الدنيا. وقيل: معناه: يضرُّهم ولا ينفعُهم كلاهُما في الآخرة؛ لأن السِّحرَ كان ينفعهم في دنياهم، لأنَّهم يكتسبون به.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَقَدْ عَلِمُواْ }؛ أي عَلِمَتِ اليهودُ، { لَمَنِ ٱشْتَرَاهُ }؛ أي لمن اختارَ السحرَ والكَفَرَ على الإيْمان، { مَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلَٰـقٍ }؛ أي من نصيبٍ. وقال الحسنُ: (مِنْ دِيْنٍ وَلاَ وَجْهٍ عِنْدَ اللهِ). وقال ابن عباس: (مِنْ قِوَامٍ).
وقيل: من خلاصٍ. قال أُمية: يدعون بالويل فيها؛ لا خَلاَقَ لهم إلا السرابيلُ من قَطْرٍ وأغلال؛ أي لا خلاصَ لهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ }؛ أي باعو به أنفسهم؛ حيث اختاروا السحرَ والكفرَ على الدين والحقِّ. وقيل: لبئس ما باعَ المستعملون السحرَ به أنفسهم بعقوبة الآخرة، { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ }.
وذهبَ جماعة إلى أن قوله: { مَآ أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِْ } عطفٌ على { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـانُ } في معنى النفي، كأنه قال: لَم ينْزِلْ على الملَكين ولكن الشياطينَ هاروت وماروت وأتباعَهما يعلِّمان الناس السحرَ. والغرضُ من هذه الآية أنْ بُهْتَ اليهود وكذِبهم؛ حملَهم على أخذ السحرِ من الشياطين، وادَّعوا أنَّهم أخذوهُ من سليمانَ، وأن ذلك اسمُ الله الأعظم ليكتسبوا به.