التفاسير

< >
عرض

وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ ٱصْطَفَيْنَاهُ فِي ٱلدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي ٱلآخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ
١٣٠
-البقرة

التفسير الكبير

قَوْلَهَ تَعَالَى: { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ }، هذا تحريضٌ من الله على مِلَّةِ نَبيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم التي هي مِلَّةُ إبراهيمَ؛ لأنََّ إبراهيمَ وإسماعيل كانَا سألاَ في دعائِهما أن يجعلَ اللهُ من ذريَّتهما في مكةَ رَسُولاً؛ لأن الكلامَ كان في ذِكْرِ مكةَ ولم يكن أحدٌ من أهلِ مكة من ذرِّيتهما نبياً سوى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. وملةُ إبراهيمَ داخلةٌ في ملةِ نبيِّنا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مع الزيادات التي في شرائعِ هذه المِلَّةِ.
وسببُ نزول هذه الآية: أنَّ عَبْدَاللهِ بْنَ سَلاَمٍ دَعَا ابْنَي أخِيْهِ مَسْلَمَةَ وَمُهَاجِرَ إلَى الإسْلاَمِ، وَقَالَ لَهُمَا: قَدْ عَلِمْتُمَا أنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ فِي التَّوْرَاةِ: (إنِّي بَاعِثٌ مِنْ ولْدِ إسْمَاعِيْلَ نَبيّاً اسْمُهُ أحْمَدُ، فَمَنْ آمَنَ بهِ فَقَدِ اهْتَدَى وَرَشَدَ؛ وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بهِ فَمَلْعُونٌ) فَأَسْلَمَ مَسْلَمَةُ وَأبَى مُهَاجِرُ أنْ يُسْلِمَ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ } أيْ يتْرُكُ دِيْنَهُ وَشَرِيْعَتَهُ.
يقال: رَغِبْتُ في الشيءِ؛ إذا أرَدْتُهُ، وَرَغِبْتُ عَنْهُ؛ إذا تَرَكْتُهُ. والرغبةُ في اللغة: مَحَبَّةُ مَا لِلنَّفْسِ فِيْهِ مَنْفَعَةٌ. ولِهذا لا يجوزُ في صفاتِ الله: رَاغِبٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } أي خَسِرَ وَهَلَكَ. وقال الكلبيُّ: (ضَلَّ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ). وقال بعضُ أهلِ اللغة: سَفِهَ بمَعْنَى يَسْفَهُ، وقيل: { سَفِهَ نَفْسَهُ } أي جَهِلَ نَفْسَهُ بمعنى لم يتفكَّر في نفسهِ أنَّ لَهَا خَالِقاً. وقيل: سَفِهَ فِي نَفْسِهِ؛ إلا أنهُ حذف الخافض فنُصِبَ، مثلُ قولهِ تعالى:
{ { وَلاَ تَعْزِمُوۤاْ عُقْدَةَ ٱلنِّكَاحِ } [البقرة: 235] أي على عُقْدَةِ النكاحِ. ويقال: ضربتُهُ الظهرَ والبطنَ؛ أي على الظهرِ والبطنِ؛ وأصلُ السَّفَهِ وَالسَّفَاهَةِ: الْجَهْلُ وَضَعْفُ الرَّأيِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَقَدِ ٱصْطَفَيْنَاهُ فِي ٱلدُّنْيَا }؛ أي للرسالةِ. وأصلُ الطَّاءِ فيه التاءُ، جعلت طاءً لقرب مخرَجِها ولتطوُّع اللِّسانِ به. قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَإِنَّهُ فِي ٱلآخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ }؛ أي الفائزينَ. قاله الزجَّاجُ. وَقِيْلَ: الْمُسْتَوْجِبيْنَ لِلْكَرَامَةِ. وقيلَ: في الآيةِ تقديمٌ وتأخير، تقديرهُ: ولقد اصطفيناهُ في الدنيا والآخرةِ وإنَّه لَمِنَ الصالحينَ، نظيرهُ في سورةِ النحل:
{ { وَآتَيْنَاهُ فِي ٱلْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي ٱلآخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ } [النحل: 122].