التفاسير

< >
عرض

ٱلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي ٱلْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ وَٱتَّقُونِ يٰأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ
١٩٧
-البقرة

التفسير الكبير

قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { ٱلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ }؛ في هذه الآيةِ تقديرُ حذفِ مبتدأ تقديره: مدَّةُ الحجِّ أشهرٌ معلومات. ويقال: الحجُّ في أشهرٍ معلومات. وقوله: { { غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ } [سبأ: 12] أي مدَّة غدوِّها ومدة رواحِها.
واختلفوا في هذه الأشهُرِ: فقال ابنُ عباس وأكثرُ المفسِّرين: (إنَّهَا شَوَّالُ وَذُو الْقِعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ). وأما مَن قالَ: إنَّها شوالُ وذو القعدة وذو الحجة، فليسَ باختلافٍ لأن المرادَ بعضُ ذي الحجة؛ لأن الحجَّ كله لا محالةَ في بعضِ هذهِ الأشهرِ لا في جميعها. ويجوزُ إضافتهُ إلى جميعِ هذه الأشهرِ وإنْ كان هو في بعضِها؛ ألا ترى إنكَ تقولُ: لقيتُ فلاناً سنةَ كذا، وقمتُ يوم كذا؛ بمعنى بعضِ المدة.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي ٱلْحَجِّ }؛ أي من أوجبَ فيهنَّ الحجَّ بالتلبيةِ أو ما يقومُ مقامَها من ذِكر أو سَوق الهديِ فلا يرفثُ ولا يفسقُ، وهذا لفظُ خبرٍ بمعنى النهي؛ كما أنَّ قَوْلَهُ:
{ { يَتَرَبَّصْنَ } [البقرة: 228] و { { يُرْضِعْنَ } [البقرة: 233] خبرَان لفظاً؛ وأمرَانِ معنًى.
والرَّفَثُ: قال ابنُ عبَّاس: (هُوَ مُرَاجَعَةُ النِّسَاءِ بذِكْرِ الْجِمَاعِ). والفُسُوقُ: قال ابنُ عمر: (هُوَ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ فِي الإحْرَامِ). واختارَ بعضُهم هذا القول؛ وقالوا: لو كان المرادُ به جميعَ المعاصي لكان لا يُخَصُّ بالنهيِ عنها حالةَ الإحرام.
وقال ابنُ عبَّاس وجماعةٌ من المفسِّرين: (الْمُرَادُ بها جَمِيْعَ الْمَعَاصِي). وفائدةُ تخصيص حالته هذه بالنهي فهو تعظيمُ حُرمة هذه العبادة؛ كما يقال: لا تَغْتَبْ في صومِك؛ وكما قال صلى الله عليه وسلم:
"إذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أحَدِكُمْ؛ فَلاَ يَرْفَثْ؛ وَلاَ يَجْهَلْ، وَإنْ جُهِلَ عَلَيْهِ فَلْيَقُلْ: إنِّي صَائِمٌ " .
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلاَ جِدَالَ فِي ٱلْحَجِّ } قال بعضُهم: الْجِدَالُ: أن تُجَادِلَ صاحبَكَ حتى تُغْضِبَهُ أوْ يُغْضِبَكَ. وَقِيْلَ: كانت قريشُ تقفُ بالمزدلفة؛ وكانت اليمنُ وربيعةُ تقفُ بعرفةَ خارجَ الْحَرَمِ؛ وَكان كلُّ فريقٍ منهم يجادلُ صاحبَهُ في الموقف؛ فنَزلت هذه الآيةُ.
قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ }؛ أي ما تَفْعَلُوا من أسباب الحجِّ وتركِ الرَّفَثِ والفسوقِ والجدالِ يعلمهُ الله؛ أي يقبلهُ منكم فيجزيكم عليه، واللهُ تعالى عالِمٌ من دون أنْ يفعلوا، ولكن المرادَ به يعلمهُ الله مَفْعُولاً؛ وكان مَن قبله يعلمهُ غيرَ مفعولٍ. وأرادَ الله بهذا الحثِّ على فعلِ الخيرِ ودلَّ به على العدلِ؛ إذ بيَّن أنه لا يجازي العبدَ على ما يعلمهُ منه، وإنَّما يجازيه على ما يقعُ منه.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ }؛ أي تَزَوَّدُوا في سَفَرِ الحجِّ والعمرة ما تَكُفّونَ به وجوهَكم عن المسألةِ. نزلت في قومٍ كانوا يخرُجون بأهاليهم بغيرِ زادٍ ويَتَّكِلُونَ على الناسِ؛ ويسمُّون أنفسهم المتَوَكِّلةَ، يقولون: نَحُجُّ بيتَ ربنا واللهُ رازقُنا. وَقِيْلَ: نزلت في قومٍ يتركُونَ أزوادَهم ويصيبونَ في حجِّهم من أهلِ الطريقِ ظُلماً؛ فبيَّن اللهُ تعالى أن الزادَ هو أن تَتَّقُوا ما لا يَحِلَّ، لا أن تُلْقُوا أزوادَكم وتصِيرُوا كَلاًّ على الناسِ.
ويقال: في الآية تقديمٌ وتأخير؛ تقديرهُ: وتزوَّدوا مِن الطاعات، { وَٱتَّقُونِ يٰأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ }؛ { فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ } ولا يَمتنعُ أن يكون المرادُ به زادَ الدُّنيا وزادَ الآخرة. كأنَّ اللهَ خصَّ على الزَّادَين جميعاً وأمرَ بالتزوُّد لسَفَرِ الدُّنيا بالطعامِ ولسفرِ الآخرة بالتَّقوَى؛ فإن النجاةَ من هَلَكَاتِ سفر الدُّنيا بالزادِ، ومن سفرِ الآخرة بالعملِ الصالحِ. قال الشاعرُ:

إذْ أنْتَ لَمْ تَرْحَلْ بزَادٍ مِنَ التُّقَى وَلاَقَيْتَ بَعْدَ الْمَوْتِ مَنْ قَدْ تَزَوَّدَا
نَدِمْتَ عَلَى أنْ لاَ تَكُونَ كَمِثْلِهِ وَأنَّكَ لَمْ تَرْصُدْ كَمَا كَانَ أرْصَدَا

واختلفَ العلماءُ في جواز الإحرام بالحجِّ قبلَ أشهر الحج؛ فرُوي عن ابنِ عبَّاس وجابرَ وعطاء ومجاهد وعكرمةَ أنَّهم قالوا: (لاَ يُحْرِمُ الرَّجُلُ بالْحَجِّ قَبْلَ أشْهُرِ الْحَجِّ). وقال عطاءُ: (مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِيَجْعَلُهَا عُمْرَةً). وقال الشافعيُّ: (تَكُونُ عُمْرَةً).
وعن إبراهيم النخعيِّ: (جَوَازُ الإحْرَامِ بالْحَجِّ قَبْلَ أشْهُرِ الْحَجِّ) وهو قولُ أبي حنيفةَ وأصحابه؛ ومالكٌ والليث؛ والثوري. وحجَّتهم: قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:
{ { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلْحَجِّ } [البقرة: 189]. وهذا عمومٌ في كون الأهِلَّةِ كلها وقتاً للحجِّ؛ ومعلومٌ أنَّ الأهلةَ ليست بميقاتٍ لأفعال الحج؛ فوجبَ أن يكون حكمُ ذلك اللفظ مُستعملاً في إحرام الحجِّ.
أما قَوْلُهُ تَعَالَى: { ٱلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ } فيحتملُ أنه توقيتٌ لأفعال الحجِّ؛ فإن من قَدِمَ مكةَ قبل أشهر الحج مُحرماً وطافَ وسعَى لَم يكن ذلك السَّعيُ مُعْتَدّاً به في الحجِّ. وذهبَ بعضُ أصحابنا إلى أنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: { ٱلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ } توقيتٌ لاستحباب الإحرام؛ لأنه إذا قَدَّمَ الإحرامَ على شوال امتدَّ مكثهُ في الإحرامِ واضطرَّ إلى شيءٍ من مُحرَّماتِ الإحرامِ.
فَصْلٌ: والنصبُ في قَوْلِهِ تَعَالَى: { فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي ٱلْحَجِّ } على التمييزِ؛ ويقرأُ بالرفعِ والتنوين؛ فَكِلاَ الوجهين جائزٌ في كلامِ العرب. وأما قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلاَ جِدَالَ فِي ٱلْحَجِّ } فأكثرُ القرَّاء على نصبهِ؛ ولَم ينقل فيه الرفعُ والتنوين إلا في روايةٍ شاذَّة. ومَن رفعَ الرفثَ والفسوقَ جعل ما بعدَهُ كلاماً مبتدأ.